تفسير قوله تعالى: (الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم)
قال سبحانه: ﴿الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ﴾ [غافر: ٧].
قوله: ﴿الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ﴾ [غافر: ٧]، العرش مخلوق خلقه الله سبحانه وتعالى، وهو غير كرسي الله سبحانه، وكلاهما مخلوقان خلقهما الله سبحانه وتعالى، والله مستو على عرشه، خلق الأرض وخلق السماوات فجعلها سبع سماوات، وفوق السماوات كرسي الله سبحانه وتعالى، فلو جمعت السماوات والأرضين وما بينهما، ثم قرنت بكرسي الله سبحانه وتعالى لكانت كالحلقة في الفلاة، فلا وجه للمقارنة بين السماوات السبع العظيمة، وما فيها من أجرام، وما فيها من أفلاك، وما فيها من نجوم، وما فيها من مخلوقات لله عز وجل، وبين كرسي الله سبحانه؛ إذ لو قرن كل هذا بكرسي الله سبحانه لكان كما توضع حلقة في صحراء فتأمل نسبتها منها! والعرش هو السرير الذي يجلس عليه الملك، يقال في ملوك الدنيا: عرش الملك، أي: السرير الذي يستوي عليه، ولله المثل الأعلى، فلا نشبه ربنا سبحانه وتعالى، ولا ننفي ما قاله سبحانه عن نفسه حيث قال: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ [طه: ٥].
وقد ذكر صفة الاستواء في سبعة مواضع من كتابه سبحانه وتعالى، فالله خلق العرش وهو لا يحتاج إليه، ولكن خلق ذلك ليري الخلق عظمته، فهو العظيم سبحانه وتعالى، فإذا عرفت أن العرش عظيم جداً فكيف بالذي استوى عليه وهو الله سبحانه وتعالى! ويحمل عرش الرحمن سبحانه وتعالى الملائكة، وهو مستغن عن العرش وما دونه، وهو فوق كل شيء أحاط بكل شيء سبحانه وتعالى، قال سبحانه: ﴿وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ﴾ [الحاقة: ١٧]، وقد حدثنا عنهم النبي صلى الله عليه وسلم، أو أذن له أن يحدث عن هؤلاء فقال: (أذن لي أن أحدث عن ملك من ملائكة الله من حملة العرش) أي: أذن له أن يصف هذا الملك بما يقربه للأذهان حتى تدرك عظمة الله سبحانه وتعالى، ثم قال عليه الصلاة والسلام: (ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه مسيرة سبعمائة عام)، وإذا كان هذا ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه فكيف برأسه! وكيف ببدنه! وكيف بحجمه كله؟! لا شك أن هذا شيء عظيم جداً.
وحملة العرش هم أقرب الملائكة لله سبحانه وتعالى، وأشرف الملائكة هم الذين قربهم الله عز وجل من عرشه فهم يحملون العرش.
وقوله: (ومن حوله) أي: ومن حول حملة العرش، فجعل الله عز وجل وظيفة لأشرف الملائكة وهي أنهم يحملون العرش وكذلك: ﴿يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا﴾ [غافر: ٧]، فجعل أشرف الملائكة من رحمته العظيمة سبحانه وتعالى يستغفرون للعبد المؤمن، وتقول: يا رب! اغفر لفلان، يا رب! اغفر لفلان، وكون الإنسان بشراً فمن طبعه أنه يقوم وينام، ويصوم ويفطر، ويذكر ويغفل، أما الملائكة فهم في عبادة دائمة، لا يفترون ولا يسأمون من تسبيح الله سبحانه، وذكره ليل نهار.
يقول إبراهيم النخعي: كانوا يقولون: لا يحجبون الاستغفار عن أحد من أهل القبلة، أي: أن جميع أهل القبلة تستغفر لهم الملائكة.
ويقول مطرف بن عبد الله: وجدنا أنصح عباد الله لعباد الله الملائكة، ينصحون فيستغفرون للمؤمنين، ويحبون المؤمنين، ووجدنا أغش عباد الله لعباد الله الشيطان، يغويهم ويمنيهم ويضلهم.
ويقول يحيى بن معاذ الرازي في هذه الآية: فما في العالم جُنة أرجى منها، آية يستجن بها الإنسان، ويتقي بها غضب الله سبحانه وتعالى، فحق على المسلم أن يحب هذه الآية لما فيها من رحمة رب العالمين، إذ فيها أن الملائكة تستغفر للخلق، فطالما كان العبد على عبادة الله محباً لله وملائكته ورسله متبعاً لدين الله ماضياً على منهاجه الإسلامي القويم، فالملائكة تستغفر له.
ثم يقول: إن ملكاً واحد لو سأل الله أن يغفر لجميع المؤمنين لغفر لهم، كيف وجميع الملائكة وحملة العرش يستغفرون للمؤمنين؟ وليس كل إنسان يقول: أنا مسلم، وهو تارك لدين الله وراءه، مضيع لصلاته متكاسل عن أمر الله تستغفر له الملائكة، فهم إنما يستغفرون للذين آمنوا، الذين يصدقون ويعتقدون ويعملون بمقتضى ذلك.
يقول خلف بن هشام البزار أحد القراء العشرة: كنت أقرأ على سليم بن عيسى، فلما بلغت هذه الآية: ﴿وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا﴾ [غافر: ٧]، بكى، ثم قال: يا خلف! ما أكرم المؤمن على الله سبحانه وتعالى! ما أكرم المؤمن على الله نائماً على فراشه والملائكة يستغفرون له.
فالمؤمن كريم على الله سبحانه وتعالى، فقد جعل سبحانه الملائكة تستغفر له، وتجلس معه في حلق الذكر فتحف الذاكرين بأجنحتها، قال صلى الله عليه وسلم: (ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده)، وقال أيضاً: (إن لله ملائكة سياحين في الأرض، يبحثون عن مجالس الذكر، فإذا وجدوها تنادوا: هلموا إلى بغيتكم، فيحفون الذاكرين بأجنحتهم).
والملائكة لا يسأمون من التسبيح لله تعالى، فهم ينزهونه ويقدسونه سبحانه، ويؤمنون به، ويستغفرون للذين آمنوا، الذين تشبهوا بالملائكة في الإيمان، إذ الملائكة يؤمنون بالله سبحانه، ولذلك بدأ بالتسبيح قبل الإيمان؛ حتى يكون المؤمنون وراء الملائكة، فجمع الاثنين: التسبيح والإيمان بالله سبحانه، ولا غرو أن يقال: أخوة إيمانية.
قوله: ﴿يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ﴾ [غافر: ٧] أي: أنهم خلقوا لذلك، وقوله: (بحمد ربهم) أي: حامدين الله سبحانه في تسبيحهم إياه، ثم قال سبحانه: ﴿وَيُؤْمِنُونَ بِهِ﴾ [غافر: ٧] أي: يؤمنون بالله سبحانه، ﴿وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا﴾ [غافر: ٧] قائلين: ﴿رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا﴾ [غافر: ٧].
أي: يا ربنا! يا من وسعت رحمتك كل شيء! إلا تسع هؤلاء المؤمنين، وفي الآية يعلمنا الله سبحانه أدب الدعاء، فيحبذ أن يقول العبد: يا رب! اغفر لي، يا من غفرت للمؤمنين! إلا تغفر لي، يا رب! اغفر لي مع المؤمنين، أنا من المؤمنين، فلا تجعلني أقل خلقك وأحقرهم عندك، فالملائكة يرجون ربهم سبحانه متوسلين بذلك: يا ربنا يا من: ﴿وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً﴾ [غافر: ٧] ومعنى ذلك أي: وسعت كل شيء برحمتك وأحطت كل شيء بعلمك.
ثم يقول سبحانه: ﴿فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا﴾ [غافر: ٧] أي: فاغفر للمؤمنين الذين تابوا إليك، ولذلك إذا تاب العبد إلى الله تاب الله عز وجل عليه، والملائكة تستغفر لهؤلاء التائبين، كما أثبت لنا ربنا ذلك فقال سبحانه: ﴿فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ﴾ [غافر: ٧].