معنى الحروف المقطعة
بدأ الله سبحانه تبارك وتعالى هذه السورة بالحرفين ﴿حم﴾، وهناك سور كثيرة في القرآن بدأت بهذه الأحرف، وتسمى الحواميم، وهي سبع سور، وغيرها من السور ذكر الله عز وجل: (الم، الر، المر، المص، كهيعص)، وذكر (ن، ق، ص)، فيذكر الله عز وجل آيات يبدؤها بهذه الحروف التي يقيناً لها حكمة من الله سبحانه تبارك وتعالى، وهي سر من أسرار هذا القرآن العظيم، وهي من حكم القرآن أن ينزل فيه في أوائل السور ذلك، والعلماء كل منهم يدلي بدلوه في ذلك، وإن كان في النهاية هذه من أسرار القرآن، ولكن يذكرون أشياء من الحكم التي يصلون إليها فيقولون مثلاً: إن هذه الحروف المكررة في أوائل السور تبلغ أربعة عشر حرفاً، وحروف العربية ثمانية وعشرون حرفاً، قالوا: نصف حروف اللغة العربية موجودة في أوائل هذه السورة، وهذه الحروف المذكورة هي أشرف من الحروف المهجورة غير المذكورة، ولذلك يقولون: هذه الحروف الأربعة عشر مشتملة على أصناف أجناس الحروف، ونحن في نظرنا أن الحروف كلها حروف، ولكن علماء اللغة العربية وعلماء التجويد وغيرهم يفرقون بينهما، فيقولون: الحروف منها الحرف المهموس ومنها المجهور، ومنها حروف اللين ومن الحروف الشديدة، ومنها الحروف المطبقة ومنها الحروف المفتوحة، والمستعلية والمنخفضة، وحروف القلقلة.
بدأ الله عز وجل في هذه السور بهذه الحروف، فمنها ما هو مهموس ومنها ما هو مجهور ومنها ما هو من حروف الرخاوة، وغير ذلك، فالله عز وجل انتقى من هذه الحروف نصف حروف اللغة العربية فوضعها في أوائل بعض سور القرآن؛ لحكمة من الحكم.
وهذه الحروف من العلماء من قال: لو جمعناها وكونا منها جملة بعد أن نأخذ المكررات منها، فنظروا وكونوا جملة عجيبة وهي: (نص حكيم قاطع له سر)، هذه الحروف التي تكررت أخذوا منها المكرر وأخذوا الحروف الغير مكررة فطلعت منها هذه الجملة التي تدل على هذا المعنى: أن هذا نص حكيم قاطع له سر، فهي من أسرار هذا القرآن! والعلماء يذكرون أنه بدأ بهذه الحروف حتى يري هؤلاء الكفار أن هذا القرآن من جنس هذه الحروف التي تتكلمون بها، من جنس اللغة العربية التي أنتم تنطقون بها، فأتوا بمثل هذا القرآن الذي هو من هذه الحروف، فعجزوا عن ذلك، والعرب قوم إذا تحداهم إنسان يقبلون التحدي ويعاندون، فلما جاءهم النبي ﷺ الذي هم يحسدونه وتحداهم ﷺ عجزوا، وما عرفوا كيف يردون عليه صلى الله عليه وسلم، وهذا دليل على أنهم عجزوا أن يأتوا بمثل هذا القرآن، ولم يقدروا على أن يأتوا بمثله.
وهذا التحديث كان للعرب الذين هم أهل اللغة العربية وأهل البلاغة وأهل الفصاحة، وأما الجهلة الحمقى من النصارى والمجرمين وغيرهم فهم يجهلون اللغة العربية، ويجيء الجاهل الأحمق الغبي منهم ويقول: أنا سآتي بمثل هذا القرآن، ويتكلم بكلام تافه ليس له معنى، ويقول: أنا قلت هذا الشيء مثل هذا الشيء، فيلقى هو وكلامه في مزبلة؛ فلا ينظر إليه أحد؛ لأنه أصلاً ليس من أهل العربية حتى يتكلم بذلك، وليس هذا الذي أتى به مثل هذا القرآن، بل هو كلام فارغ، لكن العرب قوم يعلمون كما وصفهم الله عز وجل بذلك، فهم يعلمون ما هي اللغة العربية، وما هي الفصاحة، وما هي البلاغة، وكان أحدهم إذا سئل: عرف الشيء الفلاني، يعرفه تعريفاً وجيزاً في كلمات قليلة تأتي بالمعنى الكبير، ويمكن أن البعض من الناس ينقده في هذا، فيقول: أقلني، لا أقصد كذا، فيلغي الذي قاله ويأتي بشيء ثان أقصر منه؛ لأنه يفهم اللغة العربية ويعرف ماهية البلاغة في الكلام، وماهية الفصاحة، أما الجاهل الذي لا يفهم ذلك مثل تلميذ في الابتدائي لا يفهم شيئاً، ولا يفهم اللغة العربية، لكن مثل أستاذ في اللغة العربية أو دكتور فيها فإنه حين ينظر يقول: مستحيل أن يقول إنسان: أنا سآتي بمثل هذا القرآن.
ولو يحبس نفسه في البيت ثلاثة أشهر أو أربعة أشهر فإنه بعد ذلك سيخرج على الناس عاجزاً لم يأت بشيء، ولما يتطاول بعضهم ويقول شيئاً يقول كلاماً يضحك الناس عليه فيما يقوله، فهو من أهل الفصاحة ومن أهل اللغة ولكنه عجز أن يأتي بمثل هذا القرآن، ولذلك قالوا: لن نأتي بمثله، ولكن سنقول فيه: هذا شعر، ويقوم يكذب بعضهم بعضاً: أين أوزان الشعر؟ وأين التفعيلات التي فيه؟ هذا ليس شعراً، فيقولون: سنقول: هذا سحر، فيقال: ما هو السحر الذي في هذا الذي تلاه؟ أقصى شيء يصلون إليه أنهم يقولون: هو يفرق بين الولد وبين أبيه، فأبوه يبقى كافراً والابن يصير مسلماً، فيفرق بين الولد وأبيه، هذا هو الذي يقولونه في القرآن وهم يعرفون أنهم كذابون فيما يقولون، لذلك ربنا سبحانه تبارك وتعالى أخبر عن هذا القرآن أنه كتاب حكيم فقال: ﴿وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ﴾ [فصلت: ٤١ - ٤٢] أي: نزل من عند رب العالمين من لدن حكيم حميد سبحانه تبارك وتعالى.
واليهود كانوا ينظرون نظرة أخرى إلى القرآن وإلى هذه الحروف التي في أول القرآن، فيذهبون إلى النبي ﷺ ويقولون: ماذا نزل عليك من القرآن؟ فيقرأ لهم: ﴿الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ﴾ [البقرة: ١ - ٢] وعندهم حساب يسمونه بحساب الجمل، يأتون بالحروف ويجعلون لكل حرف رقماً، ويقسمونها على نسق: أبجد هوز حطي كلمن سعفص قرشت إلخ ويقولون: الألف: واحد، والباء: اثنان، والجيم: ثلاثة، والدال: أربعة، والهاء: خمسة، والواو: ستة، والزاي: سبعة، ويجعلون لكل حرف رقماً؛ يعملون هذا الشيء من أجل أنهم يفترضون أنهم يعلمون الغيب، فيقولون: بناءً على كذا سنعرف العدد ونعرف أشياء من الغيب، وهذا من العلم المحرم، وهذا شيء حرام.
فاليهود ذهبوا إلى النبي ﷺ فقرأ عليهم: ﴿الم﴾ فقالوا: الألف هذا حرف بواحد، واللام بثلاثين، والميم بأربعين، فنجمع واحداً وثلاثين وأربعين ينتج واحداً وسبعين، إذاً: عمر دعوتك سيكون واحداً وسبعين سنة، فيقول بعضهم لبعض: كيف نتبع رجلاً دعوته عمرها واحد وسبعون سنة؟ فيأتون يسألونه مرة أخرى: ماذا نزل عليك؟ فيقول لهم: ﴿المص﴾ [الأعراف: ١] فيقولون: الألف بواحد واللام بثلاثين والميم بأربعين والصاد بسبعين فيكون المجموع مائة وواحداً وثلاثين، إذاً: لا نريد أن نتبعك؛ لأن عمر دعوتك قليل، وإذا قرأ عليهم: (الر) يقولون أيضاً: الألف بواحد واللام بثلاثين والراء بمائتين، فيكون المجموع مائتين وواحداً وثلاثين سنة، فمن أين أتوا بالمائتين وواحد وثلاثين؟ هذا كذب، ولا يحل أن يتكلم بهذا الشيء لا في دين ولا في دنيا.
فقالوا في النهاية: لبس علينا، واليهود يعرفون يقيناً أنه نبي من عند رب العالمين، وشهد عليه ربنا سبحانه فقال: ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ﴾ [الأنعام: ٢٠] أي: يعرفون النبي ﷺ ﴿كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ﴾ [الأنعام: ٢٠] فكما أن أحداً لا يغلط بابنه فإنهم يعرفون النبي ﷺ كما يعرفون أبناءهم، ﴿وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: ١٤٦].
والمؤمنون يعرفون أن هذه الأحرف لها سر من الأسرار، وأن الله عز وجل أنزلها لحكمة من الحكم، فلا مانع أن يعرفوا البعض من هذه الحكم، ومنها أن هذا القرآن من جنس الحروف التي تتكلمون بها، فنتحداكم أن تأتوا بمثله، ولذلك الغالب أنه إذا ذكر شيئاً من هذه الحروف يذكر بعدها إشارة إلى القرآن، كما قال في أول البقرة: ﴿الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ﴾ [البقرة: ١ - ٢]، أي: القرآن، وقال: ﴿الم * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ * نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ﴾ [آل عمران: ١ - ٣]، وهنا قال: ﴿حم * تَنزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ [فصلت: ١ - ٣].
نسأل الله عز وجل أن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.


الصفحة التالية
Icon