تفسير قوله تعالى: (حم.
عسق)
هذه السورة العظيمة بدأها الله سبحانه وتعالى بالحروف المقطعة في أولها: ﴿حم * عسق﴾ [الشورى: ١ - ٢]، وهذا إشارة إلى تحدي هؤلاء، فهذه الحروف من جنس ما تنطقون، ومن جنس ما تقولون، فأنتم تقرءون حروف: ألف باء، وحروف (أبجد هوز)، وتصيغون منها أشعاركم التي تتفاخرون بها، وتعلقونها على الكعبة، مثل المعلقات السبع والعشر، كلما وجدوا شاعراً مجيداً في قبيلة أخذوا قصيدة من أجمل قصائده وعلقوها على جدار الكعبة، فكان على جدار الكعبة عشر قصائد من أجمل ما قالت العرب.
فقال لهؤلاء: أنتم تفتخرون بلغتكم هذه، فهل هذا القرآن من هذا الشعر؟ إنه شيء آخر لم يعتادوا عليه، وما سمعوا بمثله قبل ذلك، لقد عرفوا كيف يخطبون ويتكلمون بالنثر، وكيف يصيغون الشعر، وكيف يسجعون فيما يقولون، ولكن أن يتكلموا بمثل القرآن فهذا شيء لم يعهدوه من قبل ذلك، فإذا بالله عز وجل يتحداهم به، ويجذب أسماعهم إلى هذا القرآن، فيستمعون وهم مستسيغون لهذا القرآن، مستمتعون به، ولكن في قلوبهم الحنق على النبي صلى الله عليه وسلم: لماذا أنت بالتحديد أنزل عليك القرآن؟ ولماذا لا نكون نحن؟ فيدفعهم ذلك إلى الغيرة منه صلى الله عليه وسلم، وإلى الحسد له صلوات الله وسلامه عليه، فلا يقبلون أن يعملوا بمثل هذا القرآن، ولا يقبلون أن يسمعوا طوعاً من النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما يستمعون من ورائه صلوات الله وسلامه عليه، يذهبون إليه وهو عند الكعبة يقرأ القرآن بالليل، فيذهبون متلصصين ليستمعوا، منهم: أبو سفيان، والوليد بن المغيرة، يذهبون ليستمعوا لبلاغة القرآن، حتى إن الوليد بن المغيرة -وهو من أشد الناس معاندة- لا يسعه إلا أن يقول: والله إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وما هو بقول بشر! لم يستطع إلا أن يقول ذلك عن هذا القرآن العظيم.
فما زال به أبو جهل -لعنة الله عليه وعلى أمثاله- يقول له: أغواك محمد؟ هل أعطاك مالاً؟ حتى رجع عن هذا الذي قاله، وقال لهم: ماذا أقول؟! دعوني أفكر، فذهب إلى بيته، واحتبس عنهم، وفكر وقدر، ﴿فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ نَظَرَ * ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ * ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ * فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ * إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ﴾ [المدثر: ١٩ - ٢٥]، وهو نفسه الذي قال عن القرآن: إن له لحلاوة وكان يذهب ليستمع بالليل للنبي ﷺ وهو يقرؤه، ومع ذلك يقول: إنه قول البشر؛ خوفاً من طعن المشركين عليه، ومن تعييرهم له، وأنه يذهب إلى محمد من أجل أن يعطيه شيئاً، وحتى يجمع له مالاً، ومن أجل أن يطعمه، وقد كان من أغناهم، ومن أعزهم، فأصابته نعرة الجاهلية، وحمية الباطل، فإذا به يرفض أن يأتي إلى النبي ﷺ بعد ذلك، وقال عن كلام رب العالمين: هذا قول البشر، بعدما قال عنه: وما هو بقول البشر!