تفسير قوله تعالى: (حم.
عسق.
كذلك يوحي إليك وإلى الذين من قبلك الله العزيز الحكيم)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
أما بعد: فسورة الشورى بدأنا فيها في الدرس السابق، وذكرنا أن الله سبحانه وتعالى بدأها بخمسة حروف افتتح بها هذه السورة، وهي قوله سبحانه: ﴿حم * عسق﴾ [الشورى: ١ - ٢]، ثم قال بعدها: ﴿كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ [الشورى: ٣].
فذكر العلماء أن الله سبحانه وتعالى حين يفتتح السورة بحروف من هذه الحروف لابد أن لها حكمة، وقد تكلم العلماء عن بعض هذه الحكم وإن كان في النهاية الحكمة الأساسية في سبب اختيار هذه الحروف لهذه السورة هي عند الله سبحانه وتعالى، وهي من أسرار القرآن، ولكن من الأشياء الظاهرة أن الله عز وجل يتحدى المشركين بهذه الكلمات وبهذه الحروف التي هي من جنس حروفهم التي ينطقون بها، فيتحداهم ويعجزهم هل يقدرون أن يأتوا بمثل هذا القرآن؟ وهم لا يقدرون على ذلك ولا يستطيعون إلى ذلك سبيلاً، بل بلغ التحدي أعظمه حين يقول سبحانه: ﴿قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا﴾ [الإسراء: ٨٨].
ليس الإنس فقط، وليس القرشيون فقط، بل كل الإنس وكل الجن، فلو كان أحد يقدر أن يعارض القرآن بمثله لحاول ذلك، حتى الذي أراد أن يأتي بمثل هذا القرآن تكلم بكلام ضحك الناس منه، وعلموا منه أنه كذاب، حتى إن أحدهم ليقول لـ مسيلمة: والله إنك لتعلم أني أعلم أنك كاذب، أي: أنت عارف أننا نعرف أنك كذاب.
فكان من تحدي هؤلاء أن يذكر لهم: ﴿ن﴾ [القلم: ١]، ﴿ق﴾ [ق: ١]، ﴿ص﴾ [ص: ١]، ﴿الم﴾، ﴿حم﴾، ﴿حم * عسق﴾ [الشورى: ١ - ٢]، وكأنه يقول: كلامكم من جنس هذه الحروف، فهل تقدرون أن تصيغوا منها قرآناً مثل هذا القرآن؟ أو سورة كأقصر سور هذا القرآن؟ فما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً.
وأيضاً حين يذكر: (الم) هذا فيه افتتاح السور، وقريش لم تكن معتادة على ذلك، فهذا مما يجذب انتباه الذي يستمع إلى ذلك، فحين يسمع الواحد منهم من يبتدئ كلاماً بأن يقول: ((الم)) أو ((الر)) وهي حروف لكنه لا يفهم ما المراد من ذلك، فإنه يحاول أن يفهم ذلك، فيصغي السمع لما يقوله النبي صلوات الله وسلامه عليه، وكان العرب أحياناً يتكلمون بحرف يعبر عن كلمة، كقول بعضهم: قلت لها قفي فقالت قاف لا تحسبينا قد نسينا الإيجاف فقوله: قاف، أي: وقفت، ولكن لابد أن يكون هناك شيء يدل على معناها قبل ذلك، وأما أن يبتدئ على طول فيقول: (الم)، (حم * عسق)، فهذا مما يشد الانتباه، وكأنهم يقولون: هذا خطاب غريب لا نفهمه، فيستمعون إلى ما يلي ذلك من كلام القرآن المعجز.
قال سبحانه: ﴿كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ [الشورى: ٣]، وما من أحرف تأتي إلا وغالباً أنه يكون بعدها إشارة إلى هذا القرآن، كقوله سبحانه: ﴿الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾ [البقرة: ١ - ٢]، وكقوله: ﴿الم * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ * نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ﴾ [آل عمران: ١ - ٣]، وقوله: ﴿حم * عسق * كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ [الشورى: ١ - ٣]، فإنه إشار بعد ذكر هذه الحروف إلى هذا القرآن، وإلى هذا الوحي العظيم الذي جاء من عند رب العالمين، فقال: (كَذَلِكَ يُوحِي)، و (ذلك) اسم إشارة للشيء البعيد، أو للقريب الذي يعظم، فالذي يشير إلى البعيد يقول: ذلك، والذي يشير إلى القريب تعظيماً له يقول: ذلك، والكاف هنا حرف تشبيه، والمعنى: كهذا الشيء العظيم الذي أعطيناك إياه، وأنزلناه إليك، وأوحيناه إليك، وكما أوحينا إليك هذا الكلام أوحينا إلى الذين من قلبك، فلست بدعاً من الرسل.
وقوله: (كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ)، من الذي يوحي؟ (اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)، فذكر ثلاثة أسماء من أسمائه الحسنى: (الله) هو لفظ الجلالة أي: المعبود وحده لا شريك له، الإله الحق لا شريك له، ولا إله سواه، (العزيز): الغالب القوي، الذي لا يغالب، ولا يمانع: ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ [يس: ٨٢]، فلا يقدر أحد أن يمتنع منه، فإذا قال: كن إنساناً، كان إنساناً، وإذا قال: كن حيواناً كان حيواناً، كن صغيراً كن كبيراً كن حياً كن ميتاً فإنه يكون كما أمر ولابد أن يكون، فلا شيء يمتنع عليه سبحانه وتعالى.
والله عز وجل له مشيئتان: مشيئة كونية قدرية، ومشيئة شرعية، والمشيئة الكونية القدرية يستحيل أن يعارض أحد فيها، والمشيئة الشرعية كأن يخبر أنه عز وجل يحب كذا، وأنه يريد لعباده الإيمان، يحب منهم ذلك فيأمرهم به، وهذا الأمر غير الأمر الأول الذي ذكرناه.
فالمشيئة الشرعية: ما يحبه الله عز وجل من عباده، فلم يكن أمراً من الله عز وجل كونياً، ولكن جعل الله عز وجل للعبد الاختيار، وإن كانت مشيئة الله غالبة، فنؤمن بقضائه وقدره، وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، ولكن الله أعطاك في نفسك ما تستشعر به أنك مختار، وأنك تريد كذا أو لا تريده، وأنك تمسك أو تترك، وأنك تأخذ بهذا أو تترك هذا، وعلى هذا الاختيار يجازيك يوم القيامة، فإذا اخترت أن تصلي فإنه يثيبك بالجنة، وإذا رفضت ذلك واخترت متابعة الشيطان ومطاوعته فإنه يعاقبك.
فالله عز وجل له مشيئتان: مشيئة كونية قدرية، ومشيئة أخرى شرعية، وهي التي يأمر العباد بها من أوامر تدخل تحت مشيئته سبحانه وتعالى فيما يحبه من عباده سبحانه أن يفعلوه، وفيما يكره من عباده أن يأتوه، فجعل لهم اختياراً فيقولون: سنفعل، ويقولون: لن نفعل.
فالمشيئة الشريعة مثل أن يقول: صل، صم، حج، اعتكف، افعل الخيرات، نكره كذا، لا تزن، لا تسرق، لا تعص، لا تفعل كذا، فهنا الله عز وجل يأمرك ويترك لك خياراً، فتختار هذا فتثاب عليه، أو تترك وتختار الآخر فتعاقب عليه، قال تعالى: ﴿وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ﴾ [البلد: ١٠]، أي: دللناه على الطريقين: طريق السعادة، وطريق الشقاوة، ولا يتعارض هذا مع علم الله السابق أن هذا سيختار الكفر ويترك الإيمان، فكتب عنده ذلك، وأن هذا سيختار طريق السعادة أو طريق الشقاوة، وأنه كتب ذلك عنده، قال سبحانه وتعالى: ﴿وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ﴾ [الإنسان: ٣٠].
قوله: (كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ)، أي: الغالب سبحانه، القاهر الذي لا يمانع ولا يغالب، (الْحَكِيمُ) ذو الحكمة العظيمة البالغة، فكل شيء يرجع إلى حكمته سبحانه.
وقوله: (كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ)، خص الله تعالى النبي ﷺ دون غيره، وهذه حكمة من الله عز وجل؛ فهو أعلم بمن خلق، والله يصطفي من يشاء، ويجتبي من يشاء، ويهدي من يريد، فاختار محمداً ﷺ وفضله على البشر، والاختيار إلى الله سبحانه وليس إلينا، كما قال تعالى: ﴿لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ﴾ [الأنبياء: ٢٣].
إذاً: فالله عز وجل بعلمه وحكمته اختار محمداً صلى الله عليه وسلم، وأنزل عليه الوحي من السماء في هذا الوقت، وفي هذا المكان، ومن بين هؤلاء الناس، وهذه حكمة من الله سبحانه وتعالى، فالله تعالى أوحى إلى نبيه بهذا القرآن العظيم المحكم المتين، فالله سبحانه حكيم أنزل كتاباً محكماً، والله سبحانه قضى وقدر أمراً مبرماً محكماً، فالله حكيم سبحانه، والله الحاكم، والحكيم صيغة مبالغة منه، قال عز وجل: ﴿وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ﴾ [الرعد: ٤١]، وهو ذو الحكمة، وهو الحكيم والحاكم والحكم سبحانه وتعالى، الحكيم: الذي يحكم الأمور فيتقنها فلا يعتري ما أحكمه خلل ولا تلف ولا كساد.
وقوله: (كَذَلِكَ يُوحِي)، هذه قراءة الجمهور، وقراءة ابن كثير: (كذلك يوحى إليك وإلى الذين من قبلك)، أي: كهذا الذي أوحينا إليك في هذه السورة نوحي إليك أيضاً باقي هذا القرآن، وننزل عليك الوحي من عندنا من السماء، فيوحى إليك من عند الله سبحانه وتعالى، وهذه الآية هي مثل قوله سبحانه وتعالى: ﴿يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ﴾ [النور: ٣٦ - ٣٧]، وهنا يقول: (كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ) وتمت الجملة بقوله: (اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)، وقوله في سورة النور: ﴿يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ﴾ [النور: ٣٦ - ٣٧]، فقوله: (رِجَالٌ) هو الفاعل هنا، وبه تمت الآية وتمت الجملة.


الصفحة التالية
Icon