تفسير قوله تعالى: (تكاد السماوات يتفطرن من فوقهن والملائكة يسبحون بحمد ربهم)
يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الأَرْضِ أَلا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ [الشورى: ٥].
قوله: ((تَكَادُ السَّمَوَاتُ)) هذه قراءة الجمهور، وقراءة نافع والكسائي: (يكاد السموات) والتأنيث ليس تأنيثاً حقيقياً، فجاز فيه أن يأتي الفعل بتاء التأنيث وبياء التذكير فيها.
وقوله: ((يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ)) هذه قراءة الجمهور، وقراءة البصريين: أبي عمرو ويعقوب وقراء شعبة عن عاصم: (ينفطرن من فوقهن)، أي: تكاد السماوات تتشقق، وتكاد تنفطر وتنهد، لماذا هذا كله؟ يذكر الله عز وجل سبب ذلك فيقول: ﴿وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا * تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا * وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا * إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا﴾ [مريم: ٨٨ - ٩٥].
فذكر الله عز وجل أن السماوات تكاد تتفطر وتتشقق، وتسقط وتهوي من عظيم وشنيع ما قاله هؤلاء المشركون حيث قالوا: إن الله اتخذ ولداً: ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ﴾ [التوبة: ٣٠]، وقال المشركون: الملائكة بنات الله، وجعلوا أصنامهم معبودات مع الله سبحانه وتعالى، فالسماوات تكاد تتشقق من هيبة الله، ومن خوف الله، ومن عظيم وشنيع ما قاله هؤلاء المشركون، فإنهم أشركوا بالله سبحانه وتعالى، وتبجحوا وقالوا ذلك.
وقوله: (وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ)، الملائكة خلقهم الله عز وجل من نور، والإنسان خلقه الله عز وجل من تراب، والجان من مارج من نار، فكان أشرفهم في الخلقة هم الملائكة؛ لأن الله عز وجل خلقهم من نور، فكانوا أشرف المخلوقات، والإنسان خلقه الله عز وجل من تراب، ولذلك استكبر عليه إبليس وقال: ﴿أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا﴾ [الإسراء: ٦١]، أي: أأسجد لهذا المخلوق من الطين؟ فالإنسان خلقه الله عز وجل ثم كرمه سبحانه وتعالى، فالتكريم للإنسان ليس لأصل خلقته، قال عز وجل: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا﴾ [الإسراء: ٧٠]، فالإنسان كجنس فضله الله على كثير ممن خلق تفضيلاً.
وبعض العلماء يقولون: أيهما أفضل: هذا الإنسان الذي كرمه الله أو الملائكة؟
و ﷺ أن الملائكة أفضل من الإنسان بأصل الخلق، ولكن الله عز وجل بتكريمه يجعل من يشاء يتجاوز الملائكة، كما جعل محمداً صلوات الله وسلامه عليه يرقى ويتجاوز سدرة المنتهى التي حين وصل إليها جبريل عليه السلام كان كالحلس البالي، والحلس: هو الكساء الذي يوضع على الدابة ليجلس عليها صاحبها، فجبريل هذا العظيم الذي خلقه الله عز وجل وجعل له ستمائة جناح يسد الأفق، وهو رسول رب العالمين إلى أنبيائه، السفير بين السماء والأرض، ومع ذلك مقامه عند الله عز وجل كان دون النبي صلى الله عليه وسلم، كما قال سبحانه عن الملائكة: ﴿وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ﴾ [الصافات: ١٦٤]، فلما وصل إلى سدرة المنتهى لم يستطع أن يتجاوزها، وجازها النبي صلوات الله وسلامه عليه بإعانة الله عز وجل له، وبفضله عليه سبحانه وتعالى.
فالغرض: أن الله خلق الملائكة وشرفهم بأن جعل أصل خلقتهم من نور، وشرفهم بأنهم يعبدون الله ليل نهار، وأنهم لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، وملك واحد من الملائكة نزل على قرى قوم لوط فرفعها وقلبها على أهلها، وأتبعها الله عز وجل بحجارة من نار جهنم والعياذ بالله، ملك واحد فعل ذلك، فيا ترى كم تكون قدرة هؤلاء الملائكة؟! فالله سبحانه وتعالى أعلم بقدرتهم، ولكن جبريل كان يأتي للنبي ﷺ ليل نهار بأخبار السماء، ينزل من السماء إلى الأرض في وقت يسير، ويصعد إلى السماء في مقدار لو قطعه إنسان بأسرع ما يملكه فإنه يحتاج إلى ألف سنة مما تعدون، ولكن الله سبحانه وتعالى يسر عليه ذلك، فكم ينفق الإنسان ليصنع آلة يصعد بها إلى القمر؟ وكم ينفق من مليارات على ذلك؟ وكم يكلفه من احتياج لآلات قوية جداًَ من أجل أن يفعل هذا الشيء؟ وجبريل لا يحتاج إلى ذلك، وإنما أمر الله (كن) فيكون، فيأتي من السماء إلى الأرض في الوقت الذي يقدره الله سبحانه وتعالى، ينزل على النبي ﷺ بكرة وعشياً ووقت ما يشاء الله سبحانه وتعالى.
ولذلك سمي الصديق صديقاً رضي الله تبارك وتعالى عنه لتصديقه خبر السماء، فالكفار حين أخبرهم النبي ﷺ صبيحة الإسراء بأنه أسري به، تعجبوا من أمره عليه الصلاة والسلام وكانوا مندهشين، وكانوا ما بين فاغر فاه، ومصدق، ومكذب وضارب رأسه بيده؛ لأنهم لا يصدقون منه صلوات الله وسلامه عليه، فيذهبون إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه فيقولون: أما ترى إلى ما يقول محمد -صلى الله عليه وسلم-؟ أما تسمع قوله؟ قال: وماذا يقول؟ قالوا: يقول: إنه ذهب إلى بيت المقدس في الليل وصعد إلى السماء! قال: لقد صدقت، وصدقه الصديق رضي الله عنه، وقال: إني أصدقه في خبر السماء ينزل عليه ليل نهار، أفلا أصدقه في هذا؟ فسمي ولقب بـ الصديق رضي الله تبارك وتعالى عنه.