تفسير قوله تعالى: (فاطر السماوات والأرض جعل لكم من أنفسكم أزواجاً)
قال الله تعالى: ﴿فَاطِرُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَمِنْ الأَنْعَامِ أَزْوَاجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾ [الشورى: ١١].
قوله: (فَاطِرُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ) أي: هو فاطر مبدع ومنشئ على غير مثال سابق سبحانه، فطر السماوات وأنشأها أول إنشاء، فلم يكن هناك سماء قبل هذه السماء التي خلقها الله، ولم يكن هناك أرض قبل الأرض التي خلقها الله سبحانه وتعالى، فهو فاطرها ومنشئها أول مرة على غير مثال سابق، لا يقلد، وعادة المخترعين في الدنيا أن يقلد كل منهم الآخر، فيطور شيئاً فشيئاً، فتجد الآلة كان لها أصل، فهم لما فكروا في صناعة الطائرة هذه التي تطير في السماء، كان ذلك في زمان عباس بن فرناس، فقد قام وصنع جناحين، وحاول أن يقلد الطيور، فهو لم يأت بفكرة الطيران من رأسه، وإنما وجد أمامه طيراً فحاول أن يقلده وأن يطير، فهذا لم يفطر هذا الشيء وإنما قلد ما خلقه الله عز وجل، ثم طور شيئاً فشيئاً حتى وصل إلى هذا الشيء، لكن الله سبحانه خلق السماوات على غير مثال سابق، فلم تكن سماوات قبل ذلك.
قوله: (جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا)، أي: جعل حلائلكم ونساءكم من أنفسكم.
وقوله: (مِنْ أَنْفُسِكُمْ) فيها معنيان صحيحان: الأول: من أصلكم وهو آدم على نبينا وعليه الصلاة والسلام، خلقه الله عز وجل، وخلق حواء من ضلع من أضلاع آدم، فـ حواء من آدم من جنسه.
الثاني: جعل لكم من جنسكم من الإنس من البشر النساء، ولم يجعل لكم النساء من الجن، بل جعل لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة سبحانه وتعالى، ولذلك لما خلق الله بقدرته سبحانه وبرحمته لآدم حواء، آنس شيئاً بجواره وركن إليها ومال إليها؛ لأنها منه ومن بعضه، فكذلك الإنسان يكون في بيته مع أهله يستشعر المحبة والمودة، ويستشعر الرحمة؛ لأنها من الجنس الذي هو منه، هي من البشر وهو من البشر.
قوله: (وَمِنَ الأَنْعَامِ أَزْوَاجًا)، أي: ملككم هذه الأنعام وجعل للأنعام من أنفسها أزواجاً، وهي أصناف وأنواع وأشكال، وجعل منها الذكر والأنثى.
وبهيمة الأنعام: هي الإبل والبقر والغنم، فجعلها أصنافاً ذكوراً وإناثاً، وملككم ذلك.
قال سبحانه: (يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ)، أي: يبث وينشر ويخلق ويكثر، فيجعلكم كثيرين في هذا الخلق الذي خلقه، كثيراً من الناس، كثيراً من الدواب والحيوان والطيور، فهو سبحانه يبثكم وينشركم ويجعلكم في هذه الدنيا كثيرين.
قال عز وجل: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ)، أي: ليس مثل الله شيئاً، ولا شيء في خلق الله سبحانه يشبه ربه سبحانه في صفاته وفي قدرته سبحانه وتعالى، وفي ذاته.
وكلمة (مثل) هنا من أدوات التشبيه، وكذلك الكاف من أدوات التشبيه أيضاً، وهنا جمع الاثنين فقال: (ليس كمثله).
فالكاف كأن تقول: محمد كأحمد، فتشبهه، وتقول: يده كيدي ورجله كرجلي وعينه كعيني، وتقول: فلان مثلي.
فهنا جمع الاثنين لتأكيد النفي أنه لا يشبهه شيء أبداً، ولا يشبه هو شيئاً أبداً، فإذا حذفت أحد الاثنين قلت: ليس هو كشيء من الأشياء، لأن الله عز وجل لا يشبه شيئاً من خلقه، ولا شيء من خلقه يشبهه، حاشا لله سبحانه وتعالى.
والكاف لتشبيه العوارض والصفات، تقول: صفاته كصفاتي، وهنا ليس كصفات الله عز وجل شيء، وكذلك لا يشبه ذات الله سبحانه وتعالى ذات من الذوات، فالله عز وجل ليس كمثله شيء، لا يشبهه شيء لا في ذاته سبحانه ولا في صفاته، وإن اشترك معه المخلوق في شيء من الصفات في المسمى فهو اشتراك في التسمية نفسها، فالله حي سبحانه وتعالى، والمخلوق حي، وحياة المخلوق حياة ضعيفة ومحدودة بهذا المخلوق، والله الحي سبحانه الذي لا يموت، والمخلوق يعتريه الموت.
والله هو السميع البصير، له الأسماء الحسنى وله الصفات العلى، لا يشبهه فيها شيء أبداً، والإنسان يسمع ويبصر، فإذا قلنا: فلان هذا بصير، ينظر بعيداً، فلان هذا نظره طويل، ولكن الإنسان يعتريه العشا ويعتريه العمى، وتعتري الإنسان الغفلة، ويعتريه النوم، والله سبحانه هو البصير الذي لا يعتريه شيء سبحانه وتعالى.
والإنسان يبصر فيحتاج إلى نور حتى يبصر فيه، والله يرى كل شيء سبحانه، الإنسان يرى ما ظهر، أما ما خفي فلا يراه، والله يرى كل شيء ما دق وما قل، وما خفي وما ظهر، وقس على ذلك كل صفات الله سبحانه وتعالى التي يجوز أن يوصف مخلوق بشيء منها، فالمخلوق يسمع ويرى ويتكلم، فهذه الصفات للمخلوق هي محدودة تليق بضعفه وعجزه، أما الله عز وجل فله الصفات التي تليق به سبحانه، فهو الحي القيوم وهو الرب سبحانه وتعالى، ولذلك هنا نفى وأثبت فقال: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ)، أي: لا شيء يشبه الله سبحانه وتعالى، ثم حتى لا تقدم على النفي المطلق فتنفي كل شيء عن الله عز وجل قال: (وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ)، أي: له الأسماء الحسنى والصفات العلى، ولكن لا يشبهه شيء في سمعه ولا في بصره سبحانه وتعالى، ولا في صفات أفعاله ولا في صفات ذاته سبحانه.