بيان نفرة المشركين من دعوة التوحيد
قال تعالى: (كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ) (كَبُرَ) أي: كان شيئاً عظيماً عندهم إذا دعوا إلى التوحيد؛ لأنهم يرفضون هذا الشيء، فكبر عليهم في أنفسهم هذا الشيء؛ لأنهم اعتادوا أن يعبدوا آلهةً متعددة، فكان لكل قبيلة إله، بل كل إنسان كان يعبد إلهاً، بل قد يعبد الواحد عدة آلهة، كـ عمران بن الحصين الذي سأله النبي صلى الله عليه وسلم: (كم تعبد اليوم من إله؟ قال: ستة -أي: ستة آلهة يعبدهم من دون الله- فقال: أين هم؟ قال: خمسة في الأرض وواحد في السماء.
قال: فمن الذي ترجوه لنفعك وضرك؟ قال: الذي في السماء) وهذا الكلام منه صريح وجد؛ لأن الذي في السماء هو الذي يعطيه، وهو الذي ينفعه ويضره، وأما عبادته الباقين مع أنه لا يرجو منهم شيئاً فكما قال تعالى: ﴿مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى﴾ [الزمر: ٣] أي: إنهم يعبدونهم لأنهم بزعمهم وبكذبهم يقربونهم إلى الله زلفى، ولذلك عندما جاء النبي ﷺ يدعوهم إلى إله واحد تعجبوا منه، وتعجب الحمقى والمجانين فقالوا: ﴿أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ﴾ [ص: ٥]، استغربوا وقالوا: انظروا إليه، يقول لكم: اعبدوا إلهاً واحداً، وأنا أعبد ستة آلهة، وذاك يعبد عشرة آلهة، وذاك يعبد كذا، أفنرجع كلنا نعبد إلهاً واحداً؟ فقد انغلقت عقولهم فلم يفهموا ذلك، وقالوا: هذا شيء عجيب! والإنسان الأحمق هو الذي يعجب من غير عجب، والذي يعجب من أمر ليس فيه عجب.
فهؤلاء يتعجبون من عبادة إله واحد، ودارت الأيام ومات منهم من مات، وقتل منهم من قتل، وأسلم منهم من أسلم، فكانوا يضحكون على أنفسهم بعد ذلك، فكانوا يجلسون مع النبي ﷺ في المسجد بعد أن يصلوا معه الفجر يذكرون الله عز وجل، وذكر الله بعد الفجر والجلوس في المسجد لمن استطاع ذلك له فضيلة عظيمة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من صلى الفجر في جماعة ثم جلس في مصلاه يذكر الله حتى تطلع الشمس ثم صلى ركعتين إلا كتب له أجر حجة وعمرة، تامة تامة تامة)، فالذي يجلس في المسجد بعد أن يصلي الفجر في جماعة، ثم يجلس يذكر الله عز وجل إلى أن تطلع الشمس وترتفع حوالي ربع ساعة أو ثلث ساعة، ثم يصلي ركعتي الضحى، كتب له أجر حجة وعمرة، تامة تامة تامة.
فكان النبي ﷺ يجلس بعد الفجر في المسجد، وكان أصحابه يجلسون حوله يذكرون الله سبحانه، وكل يذكر الله في نفسه إلى أن تطلع الشمس، ثم يصلون ركعتي الضحى، ثم يتكلمون مع بعضهم، ويذكرون ما كانوا عليه في الجاهلية، من أنهم كانوا يعملون كذا وكذا، فيقول أحدهم: كنت أصنع صنماً من عجوة فإذا جعت أكلته! فيضحكون ويتبسم النبي ﷺ مما يقولون.
وهؤلاء هم الذين كانوا في الجاهلية يقولون: ﴿أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ﴾ [: ص٥] أي: شيء بالغ في العجب، فإنا ما سمعنا قبل هذا بهذا الكلام، فكان عندهم أولاً عجيباً، ثم أصبح الآن صواباً؛ لأن العقول عندما يهديها الله سبحانه وتعالى تفكر تفكيراً سليماً منطقياً، وعندما يضلها سبحانه وتعالى لا تفهم شيئاً فتخوض فيما لا تفهمه، وتهرف بما لا تعرفه، وتتكلم فيما لا تجيده.
وقد يكون الإنسان رجلاً وصل إلى علم عظيم من علوم الدنيا، أو وصل إلى علم عالٍ بالذرة أو بالفلك، ومع ذلك يشرك بالله سبحانه وتعالى، ويفعل أفعالاً عجيبة، فتجده يعبد حجارة أو ناراً أو أشجاراً أو أنهاراً أو غيرها من دون الله سبحانه وتعالى.
يقول أحد الدكاترة: أنه كان يدرس علم المخ والأعصاب في اليابان، وفي يوم الإجازة ذهب أستاذه وغيره إلى المعبد، وكل واحد منهم أخذ معه جرساً، فسألهم: ماذا تعملون بهذا الجرس؟ فقالوا: نوقظ به الإله حتى ندعوه فيستجيب لنا! والنوم في الإنسان دليل على ضعفه وعلى أنه محتاج إلى الراحة وإلى النوم، وهؤلاء إلههم نائم، فهم يذهبون إليه في المعبد ليوقظوه حتى يرزقهم، ويعطيهم الطعام والشراب! هذا هو إلههم، والذي يفعل هذا عالم بالمخ والأعصاب، ومع ذلك إذا ذهب إلى هذا المعبد نسي وذهب عنه عقله، فيذهب يوقظ إلهه الذي أعطاه صفة من صفات البشر وهي النوم والغفلة، فالإله نائم، حتى يأتي هو ليوقظه ويطلب منه ما يريد.
وقد قال تعالى: ﴿اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ﴾ [البقرة: ٢٥٥]، فهو إله واحد لا شريك له سبحانه وتعالى، ((لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ)) وهي الغفوة البسيطة، فلا تعتريه أبداً سبحانه، ((وَلا نَوْمٌ)) ولا ينام، وفي الحديث: (إن الله لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام -سبحانه وتعالى- يخفض القسط ويرفعه، حجابه النور، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه).
فالله لا يغفل ولا ينام سبحانه وتعالى.