تفسير قوله تعالى: (وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله سبحانه وتعالى في آخر سورة الشورى: ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأُمُورُ﴾ [الشورى: ٥٢ - ٥٣].
يخبر الله سبحانه وتعالى نبيه ﷺ أن هذا الوحي الذي نزل عليه من السماء كالوحي الذي أنزل على الأنبياء من قبله فقال: (وَكَذَلِكَ) أي: كما أوحينا إلى السابقين من الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام مثله تماماً نوحي إليك وحياً صادقاً من عند رب العالمين من السماء.
(وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا) يؤكد سبحانه وتعالى أن هذا الوحي من السماء وليس كلام النبي صلى الله عليه وسلم، وقد بدأ هذه السورة بذلك وختمها بذلك سبحانه، ففي أولها قال: ﴿حم * عسق * كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ﴾ [الشورى: ١ - ٤] والسورة سورة مكية، يؤكد الله عز وجل فيها أمور العقيدة العظيمة، وتوحيد الله سبحانه وتعالى، وأن القرآن وحي من السماء، من عند رب العالمين سبحانه وتعالى، فقال في أول السورة: ﴿كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ﴾ [الشورى: ٣] أي: كما أوحى للسابقين كذلك يوحي إليك، وقال في آخرها: ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا﴾ [الشورى: ٥٢] فوصفه بأنه روح يحيي الله عز وجل به من يشاء من خلقه، ممن ماتت قلوبهم فأحياهم هذا القرآن العظيم.
وقال الله أيضاً في أوائل السورة: ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا﴾ [الشورى: ٧] فتكرر ذكر الوحي ثلاث مرات في هذه السورة، لتأكيد أنه وحي من الله سبحانه، وليس من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما هو كلام رب العالمين وحي من السماء صادق نزل بالصدق وبالحق من عند الله سبحانه.
قوله: (مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ) أي: لم تكن تعرف قبل ذلك الكتابة، ﴿وَمَا كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ﴾ [العنكبوت: ٤٨] والحكمة من ذلك (إِذًا لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} [العنكبوت: ٤٨].
فمن حكمة الله عز وجل أن جعل نبيه ﷺ أمياً لا يقرأ ولا يكتب، وليس هذا مدحاً للأمية، ولكنه مدح للنبي صلوات الله وسلامه عليه، حيث أتى بالشيء المعجز من عند رب العالمين سبحانه، فلو كان يقرأ ويكتب لدخل الشك في قلوب الناس، فالنبي ﷺ يقول له ربه سبحانه: لو كنت تقرأ وتتلو من قبله من كتاب إذاً لارتاب المبطلون المشككون في هذا الدين، ولقالوا: إنه نقله من كتب السابقين ويزعم أنه جاءه من عند رب العالمين.
قال الله: (مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ) أي: ما كنت تعرف ما هذا القرآن الذي يأتيك من عند الله، ولذلك لما قال جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم: (اقرأ.
قال: ما أنا بقارئ) أي: لست قارئاً وما الذي أقرؤه؟! فهو لا يقرأ كتاباً صلى الله عليه وسلم، أي لا يجيد قراءة ولا كتابة، وإذا كان جبريل يريد منه أن يقرأ فما الذي يقرؤه؟ فجبريل في المرة الثالثة قال له: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ﴾ [العلق: ١ - ٤] علم الناس أن يكتبوا بالقلم وهو لا يقرأ ولا يكتب صلوات الله وسلامه عليه، فالذي آتاك هذا العلم هو رب العالمين سبحانه، وهم يقرءون ويكتبون ومع ذلك لم يأتهم الوحي إلا عن طريقك أنت يا من لا تقرأ ولا تكتب صلوات الله وسلامه عليه.
قال تعالى: ﴿عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾ [العلق: ٥] وقال للنبي صلى الله عليه وسلم: ﴿وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا﴾ [النساء: ١١٣]، وهنا يقول: ﴿مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا﴾ [الشورى: ٥٢]، وقال للنبي صلى الله عليه وسلم: ﴿وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى﴾ [الضحى: ٧] أي: وجدك ضالاً عن الشريعة لا تعرف ما هذه الشريعة، فكان يعبد ربه ويوحد ربه ويكره الأصنام صلوات الله وسلامه عليه بما جعل الله عز وجل في قلبه من عصمة، فعصمه أن يقع في محظور قبل البعثة، وبعد البعثة زادت هذه العصمة من رب العالمين سبحانه وتعالى وزاده حفظاً، قال تعالى: ﴿وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ﴾ [المائدة: ٦٧]، فمعنى قوله: (وَوَجَدَكَ ضَالًّا) أي: عن الشريعة فهداك الله عز وجل لهذه الشريعة.
قوله: (وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا) أي: جعلنا هذا القرآن نوراً.
(نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا) النور يأتي من عند الله سبحانه وتعالى، فإذا أشرقت الشمس رأى الناس طريقهم، ولكن ليس كل الناس يرون الطريق، فلو أن إنساناً أعمى فإنه لا يرى شيئاً، بل هو في ظلام سواء طلعت الشمس أو لم تطلع، فكذلك الإنسان الكافر الذي طبع على قلبه؛ لأنه لا يستحق إلا ذلك، ينزل القرآن وهو نور من عند الله سبحانه ليهديه، فلا يرى شيئاً ولا يفهم شيئاً، وغاية ما يفهمه أن النبي ﷺ يهدده بيوم القيامة وهو ينكر يوم القيامة، جاء أن النبي ﷺ تلا على رجل منهم من أول سورة فصلت إلى قوله: ﴿فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ﴾ [فصلت: ١٣] فوضع يده على فم النبي ﷺ وقال: اسكت اسكت، وقام مذعوراً إلى قومه، فسألوه: ما الذي سمعت؟ قال: سمعته يتوعدنا، وهو الصادق الأمين ﷺ لا يكذب، ومع هذا لم يهتد للدين، وقد سمع سورة فصلت من أولها: ﴿حم * تَنزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ * وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ﴾ [فصلت: ١ - ٥]، فتلا عليه النبي ﷺ حتى وصل إلى قوله: ﴿فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ﴾ [فصلت: ١٣] فخاف مما يأتيه من عند الله سبحانه؛ لأنه يعلم أن النبي ﷺ إذا هدد لا يكذب صلوات الله وسلامه عليه.
ومرة كان النبي ﷺ يطوف بالبيت والكفار أبو جهل وغيره لعنة الله عليهم يسخرون منه ويتهكمون به، كلما طاف سخروا منه، ثم ذهب إليهم ﷺ وقال: (ألا تسمعون، والله لقد جئتكم بالذبح) فإذا بأشدهم عليه صلوات الله وسلامه عليه يصير في غاية اللين ويقول: اذهب يا أبا القاسم! والله ما كنت جهولاً.
فرعبوا منه حين قال: (لقد جئتكم بالذبح) وهو واحد صلوات الله وسلامه عليه وهم مجموعة، والذي خوفهم أنهم يعلمون أنه صادق لا يكذب صلوات الله وسلامه عليه، فإذا قال: (جئتكم بالذبح) فسيذبحون في يوم من الأيام، وقد ذبح أبو جهل حيث حز رأسه عبد الله بن مسعود رضي الله، وألقي جيفة قذرة في قليب بدر، فالنبي ﷺ إذا قال ووعد بشيء فما ينطق عن الهوى، وإنما هو وحي من الله سبحانه وتعالى.
قال سبحانه: (نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ) لم يقل: نهدي به كل الخلق، وإنما قال: (نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا) فالله يهدي من يشاء، يهدي من يستحق ذلك، ومن كتب عنده سبحانه وقدر له أنه يستحق الهدى هداه الله عز وجل.
جاء في سنن أبي داود وغيره أن النبي ﷺ قال: (خلق الله الخلق في ظلمة وألقى عليهم من نوره سبحانه، فمن أصابه نوره هداه الله، ومن أخطأه ضل) والله يفعل ما يشاء سبحانه وتعالى، يهدي من يشاء تفضلاً منه سبحانه، ويضل من يشاء عدلاً منه سبحانه: ﴿وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ﴾ [الزخرف: ٧٦] وقد أنزل الكتب وأرسل الرسل فلا حجة للخلق عند ربهم سبحانه.