تفسير قوله تعالى: (والذي خلق الأزواج كلها وما كنا له مقرنين)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل: ﴿وَالَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ * لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ * وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ * وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الإِنسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ * أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ * وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ * أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ﴾ [الزخرف: ١٢ - ١٨].
يخبر الله تعالى أن من آياته الدالة على قدرته أنه خلق للعباد الأصناف التي يحتاجون إليها وسخر لهم الفلك، وسخر لهم الأنعام: منها ما يأكلون، ومنها ما يركبون، ومنها ما يستفيدون من أصوافها وأوبارها، وأشعارها أثاثاً ومتاعاً إلى حين، ويخلق لهم ما يعلمون وما لا يعلمون.
ويذكرهم أن إذا ركبتم هذه الأنعام التي خلقها الله سبحانه، وعلمتم أنكم وحدكم لا تقدرون عليها إنما يقدركم الله عز وجل على ذلك.
وقد أراكم كيف ذلل لكم الخيل والحمير، وكيف ذلل لكم الأنعام من الإبل والبقر والأغنام، وكيف صعب عليكم سياسة الأسود، والنمور وغير ذلك مما خلق الله عز وجل، وأراكم آياته في ذلك، ولو شاء الله لجعل المسخرة المذللة نافرة وحشية كما جعل غيرها كذلك، ولكن الله شاء بفضله ورحمته أن يسهل عليكم حتى تذكروا نعمة الله سبحانه، وتشكروه ولا تكفروه، ولا تغفلوا عنه سبحانه وتعالى وتقولوا: ﴿سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا﴾ [الزخرف: ١٣] أي: سبحان الله الذي جعل لنا هذه الأشياء تحت أيدينا مع قوتها العظيمة فنسوقها ونسوسها، ونركب عليها.
قال تعالى: ﴿وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ﴾ [الزخرف: ١٣] أي: نتبرأ من الحول والقوة، فنحن لا نقدر عليها ولا نطيق هذه الأشياء إلا أن يقدرنا الله عز وجل.
﴿وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ﴾ [الزخرف: ١٤] فيتذكر العبد أنه راجع إلى الله، وأن الله سائله عن هذه النعم ما الذي صنع فيها؟ فمن شكر الله سبحانه زاده قال تعالى: ﴿لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ﴾ [إبراهيم: ٧] ولذلك علم النبي ﷺ أصحابه الذكر الذي يقولونه حين يركبون الدواب وهو: (سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون الحمد لله الحمد لله، الحمد لله، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر).
وكذلك علمنا دعاء السفر وهو: (اللهم إنا نسألك في سفرنا هذا البر والتقوى، ومن العمل ما ترضى، اللهم هون علينا سفرنا هذا، واطو عنا بعده، اللهم أنت الصاحب في السفر والخليفة في الأهل والمال، اللهم إنا نعوذ بك من وعثاء السفر وكآبة المنظر، وسوء المنقلب في الأهل والمال والولد).
وإذا رجع من السفر قال: (آيبون تائبون عابدون لربنا حامدون).
كذلك كان من دعاء النبي ﷺ في سفره: (أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق) ويخبر أن الذي ينزل منزلاً ويقول ذلك: (لم يضره شيء حتى يرتحل من منزله هذا) وهذا الذكر العظيم يقوله المؤمن بالليل وبالنهار، ويقوله إذا نزل منزلاً، ويقوله إذا خاف من إنسان أو من أي شيء.
فإذا قال ذلك لا يضره شيء بإذن رب العالمين سبحانه.
وكذلك جاء عن النبي ﷺ أنه إذا كان في سفر وجاء وقت السحر قال: (سمع سامع بحمد ربنا وحسن بلائه علينا، ربنا صاحبنا وأفضل علينا عائذاً بالله من النار) فتذكر الله عز وجل حين تركب الدابة، وحين تنزل عنها، وحين تسير أو تقف، وحين تنام فيكون المؤمن في كل أحواله ذاكراً ولا يغفل عن ربه سبحانه وتعالى.
تذكر الله تعالى؛ لأنه الذي أعطاك القوة والقدرة والصحة، والعافية.
فإذا نمت فتذكر أن الله عز وجل هو الذي قدرك على أن تضع رأسك على الوسادة وتنام، وغيرك يضع رأسه عليها ولا ينام، فهذه نعمة من الله أنعمها عليك، وإذا أردت أن تعرف نعمة الله عز وجل عليك، فانظر إلى أهل الابتلاء.
وانظر لإنسان أصيب بالشلل في رجله كيف يمشي وقد أمسك العكاز في يده ويعد الخطوات، ونحن نذهب إلى المسجد وإلى السوق، لكن غيرنا ممن سلب الله عز وجل منه شيئاً، وجعله آية لغيره يفكر مائة مرة أين سيضع رجله فوق الرصيف ومن أين سينزل؟! فهذه من نعم الله سبحانه التي أمرنا أن نحمده عز وجل ونشكره عليها، فإذا سرت ذكرت أن الله هو الذي أقدرك على المسير.
وإذا أنفذت أمراً تفكر أن الله هو الذي قدرك على التنفيذ.
وإذ قمت من النوم ووجدت أعضاءك سليمة وغيرك محتاج إلى من يقيمه عرفت نعمة الله تعالى عليك.
ومعنى الذكر الذي كان يقوله النبي ﷺ في سفره وقت السحر اسمعوا كلكم نحن نثني على ربنا ونحمد ربنا ولا نكفره سبحانه وتعالى، وهو قد ابتلانا وأحسن فيما ابتلانا به.
قال تعالى: ﴿وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ﴾ [الأنبياء: ٣٥] فأعطاك النعم، وابتلاك بها لينظر أتشكره أم لا؟ وابتلاك بالمصائب لتصبر أم لا؟ فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: الله أحسن بلاءه علينا، واختبرنا فأحسن الاختبار، وأعطانا وأفضل علينا سبحانه.
ثم دعا ربه: (ربنا صاحبنا) أي: كن معنا دائماً.
والله مع جميع خلقه سبحانه تبارك وتعالى، ولكن فرق بين معية ومعية، فالله يقول: ﴿إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ﴾ [النحل: ١٢٨] فهو معهم برحمته وبتأييده، ومعهم بنصره، وفضله وتوفيقه.
والله مع الكافر رقيب عليه وشهيد ويحفظ أعماله.
فلذلك هنا يقول: ربنا صاحبنا أي: كن معنا بتوفيقك وفضلك ورحمتك وأعطنا من فضلك وبركاتك وبرك ورزقك ونعوذ بك من النار.
كذلك جاء في القرآن أن يقولوا عند ركوبهم: ﴿وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ * وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ﴾ [الزخرف: ١٣ - ١٤] وسواء كان الركوب للدابة أو السفينة أو ما كان مثلها.
وكذلك تقول: ﴿وَقُلْ رَبِّ أَنزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنزِلِينَ﴾ [المؤمنون: ٢٩] وإذا تحركت قل: ﴿بِاِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [هود: ٤١].
فاذكر الله تعالى في كل الأحوال: إذا صعد بك المركب أو السفينة أو الطائرة أو السيارة، وإذا كنت على مكان مرتفع واستشعرت فوقيتك فتذكر أن الله أكبر منك، وأكبر من كل شيء.
وكان من هدي النبي ﷺ (أنه إذا صعد ثنية أو شرفاً قال: الله أكبر، وإذا كان في نزول قال: سبحان الله)، وهذا ذكر عظيم ومناسب للحال التي هو فيها.
فالله سبحانه وتعالى لا ينقصه ولا يعيبه شيء فتنزهه بقول: سبحان الله أما الإنسان فيعيبه أشياء كثيرة فيصعد، ويأبى الله أن يرفع أحداً إلا ووضعه بعد ذلك، فلا يزال في الصعود والنزول في الدنيا إلى أن يدفن في التراب.
فإذا قال حين ينزل: سبحان الله أي: سبحان الذي شأنه كله عال وعظيم، ولا يحط من قدره شيء فلذلك ناسب في النزول أن تقول: سبحانه الله، ولذلك كان ذكر الركوع والسجود سبحان الله لكونهما هيئتي تواضع وذل.
أما أشرف الذكر في القيام فهو قراءة القرآن.