الغفلة سبب لتسلط أقران السوء على المرء
قال سبحانه وتعالى: ﴿وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ﴾ [الزخرف: ٣٦]، قوله: العشى: ضعف البصر، والمعنى: أنه لا يستطيع الرؤية بالليل، فينظر في النهار ولا يرى بالليل، والذي يعشوا عن ذكر الرحمن، كأنه يتعامى ويتغافل عن ذكر الله تعالى ويغمض عينيه عن نور رب العالمين سبحانه وتعالى؛ لأنه لا يريد أن ينظر في كتاب الله عز وجل، ولا أن يسمع لما يذكره به النبي صلوات الله وسلامه عليه، ولا يريد أن يستجيب، فغشى تغافل وتعامى عن ربه سبحانه وتعالى.
ومن يفعل ذلك يسلط الله عز وجل عليه الشياطين قال سبحانه: ﴿نُقَيِّضْ﴾ [الزخرف: ٣٦]، أي: نسلط عليه وهذه قراءة الجمهور، وقراءة شعبة بخلفه، وقرءها أيضاً يعقوب يقيض بالياء، أي: الله عز وجل يقيض له، ﴿نُقَيِّضْ لَهُ﴾ [الزخرف: ٣٦]، بنون الجمع التي تدل على العظمة والمعنى: الله عز وجل يفعل به ذلك، قال: ﴿نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ﴾ [الزخرف: ٣٦]، أي: يسلط عليه، ويجمع عليه الشياطين، ويجعلهم مسلطين على هذا الإنسان الذي يريد الحياة الدنيا ويتعامى ويتغافل عن ذكر الله سبحانه، قوله تعالى: ﴿نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ﴾ [الزخرف: ٣٦]، أي: صاحب له مقترن به لا يفارقه أبداً، فكل من يتغافل عن الله، ويترك ربه سبحانه وتعالى، يتركه الله عز وجل ويسلط عليه هواه، ويسلط عليه الشياطين لأنه غافل عن الله عز وجل.
وقوله: ﴿وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ﴾ [الزخرف: ٣٧] أي: يصدون أولياءهم من المشركين والكفار والفجار، قوله: ﴿عَنِ السَّبِيلِ﴾ [الزخرف: ٣٧]، أي: عن سبيل الحق، وعن طريق الله رب العالمين، قوله: ﴿وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ﴾ [الزخرف: ٣٧]، إن أعظم عقوبة من الله للإنسان في الدنيا، أن يسلط عليه نفسه وشيطانه، فيجعلانه يحسب أنه على الحق.
لأن الإنسان إذا فعل المعصية وهو يعرف أنها معصية، قد يتوب منها لشعوره بالذنب والإثم، أما الذي يفعل المعصية، وقد يقع في الكفر بالله، وهو يظن أنه على خير، وعلى الحق والصواب، فإنه قد عوقب بأعظم العقوبة ويبعد أن ينتهي عما هو فيه، ولذلك كان المشركون أيام النبي ﷺ يقولون عن النبي صلوات الله وسلامه عليه، وعن هذا الذي نزل عليه من السماء ما قاله تعالى مخبراً عنهم أنهم قالوا: ﴿اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ [الأنفال: ٣٢]، أي: أنهم كانوا في غاية الغفلة عما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، حتى أنهم يظنون أنهم على الصواب، بل لشدة اعتقادهم بذلك يدعون على أنفسهم: يا رب أسقط علينا حجارة من السماء، إذا كنا نحن الكاذبين، مع أنهم لو تدبروا وتفكروا وأعملوا عقولهم؛ لعرفوا أنهم هم الكاذبون، وأنهم هم الكافرون، وأنهم مستكبرون عن دين الله رب العالمين، ومثل ذلك قولهم عن النبي صلى الله عليه وسلم: لو كان ما جاء به النبي ﷺ خيرا لأعطينا نحن إياه، قال تعالى مخبراً بقولهم: ﴿لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ﴾ [الأحقاف: ١١]، أي: طالما أننا لم نسبق إليه غيرنا، فهو ليس بخير، وهذا منطق مغلوط!؛ لأن صاحبه لا ينظر فيما جاء من عند رب العالمين، ولا ما هو عليه من باطل؛ ولو تأمل في ذلك لما وجد غضاضة في اتباع النبي صلى الله عليه وسلم.
قوله: ﴿يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ﴾ [الزخرف: ٣٧]، قرئت يحسبون: بفتح السين، وهي قراءة عاصم وابن عامر، وحمزة، وأبي جعفر، وباقي القراء يقرءونها بكسر السين، ﴿وَيَحْسِبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ﴾ [الزخرف: ٣٧].
قال تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا جَاءَنَا﴾ [الزخرف: ٣٨]، أي: هذا الذي عشى عن ذكر الرحمن، والعاشي هو الغافل المتعامي عن ذكر الله سبحانه، التارك لكتاب الله ولسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وفي قوله: ﴿حَتَّى إِذَا جَاءَنَا﴾ [الزخرف: ٣٨]، قرأتان: الأولى قراءة الجمهور وقراءة المدنيين نافع، وأبي جعفر، وابن كثير حيث يقرؤنها بالإفراد ﴿جَاءَنَا﴾ [الزخرف: ٣٨]، والثانية قراءة ابن عامر، وشعبة عن عاصم، بالتثنية: ﴿حَتَّى إِذَا جَاءَانَا﴾ [الزخرف: ٣٨]، والمعنى: العاشي والشيطان القرين، قوله: ﴿حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ﴾ [الزخرف: ٣٨]، القائل هو العاشي الذي غفل عن ذكر الله: ﴿يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ﴾ [الزخرف: ٣٨]، بعد أن جيء به موثقاً مغلاً مع شيطانه، ووضعا على النار، يظهر الحسرة والندامة ويتساءل: ما الذي قربني منك في الدنيا؟ ليتني بعدت عنك، قال تعالى: ﴿يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ﴾ [الزخرف: ٣٨]، أي: كما بين المشرق والمغرب، وهذا من باب التغليب، فإنهما إذا انفردا قيل: هنا المشرق وهنا المغرب، فإذا جمع الاثنين قيل: المشرقان، وقيل: المغربان أيضاً، على جهة التغليب كما يقال: العمران، على أبي بكر، وعمر رضي الله عنهما، قوله: ﴿فَبِئْسَ الْقَرِينُ﴾ [الزخرف: ٣٨]، أي: بئس من يقترن بالإنسان الشيطان في الدنيا؛ لأنه يغويه وفي النار يرديه يوم القيامة، لذلك المؤمن يحرص على ذكر الله عز وجل، ويحرص على أن ينتقي أصدقاء الخير، وإخوة الطاعة، وأن يجتنب رفقاء السوء، ويجتنب ما يدفعه إليه الشيطان من عمل.


الصفحة التالية
Icon