تفسير قوله تعالى: (وأنزلنا من السماء ماء بقدر)
ومن نعمه العظيمة التي يذكرها لنا قال: ﴿وَأَنزَلْنَا مِنْ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ﴾ [المؤمنون: ١٨]، معنى السماء في هذه الآية: كل ما سما أو علا فوقك وهو السحاب، وقد يكون المعنى: أن أصله من الجنة، مثلما ذكر لنا أن أصل نهر النيل ونهر الفرات من الجنة، وقد صح الحديث عن النبي ﷺ في ذلك.
وانظر إلى التعبير هنا ((وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ))، ويقول في آية أخرى: ﴿يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ﴾ [الشورى: ٢٧]، فالعبد يستغيث بالله: أن أنزل المطر، والله أعلم بمصالح العباد، ومن يستحق ومن لا يستحق، فينزل في هذه البقعة من الأرض كمية من الماء وفي البقعة الأخرى كمية من الماء، بحسب ما يراه الله سبحانه وتعالى، فلو زادت المياه التي تنزل من السماء عن حدها لأغرقت الأرض، ولكن الله ينزل كل شيء بقدر، والمتتبع لأحوال الماء كيف يكون في البحار والأنهار وفي المحيطات وأنه يتبخر إلى السماء بنظام عظيم قدره سبحانه، فيتبخر الماء من البحار ومن أماكن المياه إلى السماء بسبب أشعة الشمس فيعلو، والشمس تسخن ماء البحر لدرجة معينة لا يتأذى بها الإنسان، وهذا من حكمة الله عز وجل، يتبخر فيصعد الماء إلى طبقات الجو العليا، وهذا الماء كلما ارتفع تقل درجة الحرارة، إلى أن يصل إلى حد معين فوق قمم الجبال، فتكون درجة الحرارة أقل منها على الأرض، فيتكثف الماء في منطقة معينة من السماء، وبعد هذا الحد بأربعين كيلو متراً في السماء تزيد درجة الحرارة مرة أخرى، ويقف فيها الماء المتبخر في هذه المنطقة من طبقات الجو، فيرسل الله الرياح لتحرك هذه الأبخرة المتكونة من الماء والتي أصبحت على شكل سحب، وبعد ذلك يأمر الله بأن تنزل الأمطار حيث يريد من الأرض.
وقد جاء في الحديث الذي في صحيح مسلم والذي فيه: أن رجلاً كان يسير فسمع صوتاً في سحابة: اسق حديقة فلان، فتتبع فنظر فإذا بالسحابة تجيء من مكان معين فتنزل المياه كلها في شرجة أرض صخرية، فتتجمع المياه وتمشي إلى مكان واحد فقط، فمشى وراء المياه إلى أن وصل إلى حديقة، فسأل صاحب الحديقة عن اسمه، فقال: فلان، فكان نفس الاسم الذي سمعه في الصوت الذي كان في السحابة، فقال: لمَ سألتني عن اسمي؟ فقال له: إني سمعت صوتاً في السحابة يقول: اسق حديقة فلان، فتتبعت الماء فوجدته جاء عندك في الأرض الذي أنت فيها.
فماذا يعمل هذا الإنسان؟ قال: إنه يزرع هذه الأرض، والمحصول الذي يخرج منها يقسمه أثلاثاً: ثلثاً يأكل منه هو وأهله وعياله، والثلث الآخر يرده في الأرض زرعاً مرة ثانية، والثلث الثالث يتصدق به لله سبحانه وتعالى، رعى الله سبحانه وتعالى فرعاه الله وحفظه وحفظ له ماله، وما نقص مال من صدقة، فهذه سحابة تنزل ماءها من أجل فلان، وهذه بركة من رب العالمين سبحانه وتعالى، وبركة طاعة الإنسان، فإنه حين يطيع ربه يعطيه من فضله سبحانه وتعالى.
فينزل الماء بقدر يناسب الحديقة المعينة، أو على قدر يناسب المزارع المراد إنزال المطر عليها حتى لا يهلك أهلها، وينزل سيولاً في أماكن معينة لحكمة منه سبحانه وتعالى وهي إغراقها وأصحابها، فكل شيء ينزل بقدر من عنده سبحانه وتعالى.
يقول لنا العلماء: إن رحمة رب العالمين أن المسطحات المائية من بحار ومن محيطات ومن أنهار والتي تتبخر منها المياه مساحة دقيقة ومحسوبة تماماً، فلو أنها زادت عن هذا الحد لتبخرت كمية كبيرة من الماء، وعندما تنزل بشكل أمطار ستغرق الدنيا، ويقول العلماء: لو أن المسطحات المائية كانت أوسع مما هي عليه لغرقت الدنيا بالمطر الذي ينزل عليها، ولكن حكمة الله سبحانه أن جعل البحار والمحيطات بهذا الحجم أو بهذه المساحة والاتساع.
أما كمية الأمطار التي تنزل فهي كمية كبيرة جداً يقال: إنها تعادل حوالي ستة عشر مليون طن من الماء، ينزل من السماء في كل ثانية واحدة، فلولا أن الله عز وجل قسم أرزاق العباد هنا لأغرق هذا الماء النازل الدنيا وأهلك أهلها.
والمطر الذي هو على شكل سحاب في السماء يرسل الله عز وجل الرياح فتثيره، ويتولد من ذلك ما يشاء الله عز وجل من برق ومن رعد، فالإنسان ينظر للبرق أنه شيء خطير سينزل مطر، ويخاف منه، ولكن الله سبحانه وتعالى يجعله رحمة منه لزرع الإنسان ولحياة هذا الإنسان.
قال تعالى: ﴿وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأَرْضِ﴾ [المؤمنون: ١٨]، فالماء لا ينزل على نفس المكان الذي خرج منه ولكن إلى مكان آخر، ومن حكمة الله سبحانه وتعالى أنه لو أن الماء نزل في نفس المكان ما سقى زرعاً ولا ضرعاً، ولكن يتحرك على أرض معشبة يخرج منها ما فيها، وعلى أرض مجدبة يخرج منها ثمارها، وينزل على أرض أخرى فإما أن يتجمع في باطن الأرض في مكان بعيد عن الجراثيم فيكون طاهراً ومطهراً للإنسان وماء عذباً، أو أنه ينزل على أماكن عالية، وقد ينتن لو بقي في مكانه، فيسخر الله عز وجل له ما يسيره فإذا به يجري أنهاراً ويصب في البحار.
فالذي رفعه والذي أنزله قادر على أن يذهب به كله فلا يجد الإنسان ما يشرب، فالله على كل شيء قدير، ويجب على الإنسان أن يعرف قدرة الله، وأن يقدر الله حق قدره، قال سبحانه: ﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ﴾ [الأنعام: ٩١].
الحمد لله أولاً وآخراً وظاهراً وباطناً.
نسأل الله عز وجل أن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.