تفسير قوله تعالى: (فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين)
قال الله تعالى: ﴿فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ﴾ [الدخان: ١٠]، هذا تحذير لهؤلاء الكفار، وهذه سورة مكية، فيهدد الله عز وجل هؤلاء الكفار ويقول للنبي صلى الله عليه وسلم: ارتقب واصبر على هذا الذي يقولونه، وانتظر حتى ترى كيف نجازي هؤلاء بما يقولون، فسيأتيهم العذاب من عند الله عز وجل، وهو الدخان، فيظهر لهم ما كانوا يفعلونه بالنبي صلوات الله وسلامه عليه، ويبين لهم شيئاً من عذابه.
وقد جاء حديث عن ابن مسعود رضي الله عنهما يبين أن هذا الدخان في الدنيا، وفي حديث آخر عن النبي ﷺ من حديث حذيفة بن أسيد الغفاري أن هذا الدخان يوم القيامة، وكلاهما صحيح، ولكن المقصود منهما في هذه الآية أحدهما، فالحديث الأول عن ابن مسعود رضي الله عنهما أنه سئل عن قوله تعالى: ﴿فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ﴾ [الدخان: ١٠] وأن فلاناً يقول: يكون دخان يوم القيامة، فغضب ابن مسعود رضي الله عنهم وقال: لم يتكلم أحدكم بما ليس له به علم؟ من علم فليقل بعلمه، ومن كان لا يعلم فليقل: الله أعلم، ثم قال رضي الله تبارك وتعالى عنه: إنما كان هذا لأن قريشاً لما استعصت على النبي ﷺ دعا عليهم بسنين كسني يوسف؛ فأصابهم قحط وجهد حتى أكلوا العظام، فجعل الرجل ينظر إلى السماء فيرى ما بينه وبينها كهيئة الدخان من الجهد، فأنزل الله عز وجل: ﴿فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ * يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [الدخان: ١٠ - ١١].
وهذا الحديث في البخاري ومسلم من حديث ابن مسعود رضي الله عنه، وفيه أن النبي ﷺ دعا عليهم لما شددوا على النبي ﷺ قال: (اللهم أعني عليهم بسنين كسني يوسف)، فكان هذا الدخان من شدة الجوع ومن قلة المياه، فلم يجدوا ما يأكلونه فأكلوا لحوم الكلاب، وأكلوا عظام الميتة وكل شيء وجدوه أمامهم، فالنبي ﷺ دعا واستجاب له ربه، فكانوا من شدة جوعهم يرون ما بينهم وبين السماء كالدخان، والجائع يغشى على بصره، فشدة الحر والعطش وقلة الطعام جعلتهم ينظرون إلى ما بينهم وبين السماء كالدخان من شدة ما هم فيه من قحط ومحل وجدب.
فذهب أبو سفيان إلى النبي ﷺ وقال للنبي صلوات الله وسلامه عليه: إنك جئت تدعو إلى صلة الرحم فكيف تدعو علينا؟! فقد عرف أن الله قد استجاب للنبي صلى الله عليه وسلم، فذهب إليه ليدعو لهم كما فعل فرعون مع موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام لما ابتلاهم الله عز وجل، قال الله: ﴿وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ * فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ﴾ [الأعراف: ١٣٠ - ١٣١]، وبعد ذلك يذهبون إلى موسى ويقولون: ﴿يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ [الأعراف: ١٣٤]، وكلما يأتيهم عذاب من عند الله يقولون: سنؤمن لك، فيكشف الله عز وجل عنهم العذاب فيرجعون، فهذه سنة الكفار السابقين، فالله عز وجل إذا أخذهم جأروا إليه بالدعاء ورجعوا إليه ليكشف عنهم البلاء، فإذا كشف عنهم البلاء رجعوا إلى كفرهم مرة ثانية، وكذلك هؤلاء المشركون قال رجل منهم: يا رسول الله استسق لمضر، وهذه القبيلة أبوهم الأكبر مضر، فيقول له: استسق الله لمضر، أي: لقريش التي عدوت عليها، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (إنك لجرئ) يعني: إنك لجريء في هذا الذي تطلبه، فبدلاً ما تقول لهم: آمنوا بسبب ما أنزل الله عز وجل عليكم من عذاب بدعوة النبي صلى الله عليه وسلم، قلت: استسق! ولكن حنان النبي ﷺ جعله يستسقي لهم، ودعا لهم أن يكشف الله عز وجل عنهم ما هم فيه، وقد وعدوه أنهم يؤمنون فقالوا: ﴿رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ﴾ [الدخان: ١٢]، فقال الله: ﴿إِنَّا كَاشِفُوا الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ﴾ [الدخان: ١٥]، أي: ستعودون إلى كفركم مرة ثانية.
يقول ابن مسعود رضي الله عنه: فاستسقى -يعني: طلب النبي ﷺ من ربه أن يسقي هؤلاء- فسقوا فنزلت الآية الأخرى: ﴿إِنَّكُمْ عَائِدُونَ﴾ [الدخان: ١٥]، فلما أصابتهم الرفاهية عادوا إلى حالهم حين أصابتهم الرفاهية، فأنزل الله عز وجل: ﴿يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنتَقِمُونَ﴾ [الدخان: ١٦]، قال ابن مسعود: هي يوم بدر، أي: إن رجعتم إلى الكفر فسنبطش بكم بطشة كبرى، وكان ذلك في يوم بدر، حيث أهلك الله عز وجل شيوخ المشركين كـ أبي جهل، وشيبة بن ربيعة، وعتبة بن ربيعة، والوليد بن عتبة وغيرهم.
وجاء في حديث آخر عن النبي ﷺ من حديث حذيفة بن أسيد الغفاري كما في صحيح مسلم قال: (طلع النبي ﷺ علينا ونحن نتذاكر فقال: ما تذكرون؟ قالوا: نذكر الساعة) يعني: يوم القيامة وما يكون فيه، فقال صلى الله عليه وسلم: (إنها لن تقوم حتى تروا قبلها عشر آيات) يعني: العلامات الكبرى لهذه الساعة، قال صلى الله عليه وسلم: (الدخان والدجال، والدابة، وطلوع الشمس من مغربها، ونزول عيسى ابن مريم، وخروج يأجوج ومأجوج، وثلاثة خسوف: خسف بالمشرق وخسف بالمغرب، وخسف بجزيرة العرب، وآخر ذلك نار تخرج من اليمن تطرد الناس إلى محشرهم).
فهذه هي العلامات الكبرى للساعة، وهي عشر علامات إذا خرجت كانت متوالية بعضها وراء بعض كما قال النبي صلوات الله وسلامه عليه: (كعقد انفرط) أي: مثل السبحة إذا انقطع منها الحبل تذهب منها الخرزات واحدة تل الأخرى.
وآخر العلامات نار تخرج من قعر عدن أبين تسوق الناس إلى المحشر، وهي نار عظيمة تجعل الناس كلهم يهربون ويذهبون إلى الشام، وهي أرض المحشر.
قال: (تبيت معهم حيث باتوا، وتقيل معهم حيث قالوا، وتصبح معهم إذا أصبحوا، وتمسي معهم إذا أمسوا، قلت: يا نبي الله! وما الدخان؟ فذكر هذه الآية).
وابن مسعود رضي الله عنه لا ينكر هذا الحديث، ولكن يقول: إن الدخان المقصود في هذه الآية قد حصل وانتهى؛ لأن ربنا يقول: ﴿إِنَّا كَاشِفُوا الْعَذَابِ قَلِيلًا﴾ [الدخان: ١٥]، وعندما تقوم الساعة لن يكشف الله العذاب.
ولذلك فالراجح قول ابن مسعود رضي الله عنه، والصحيح أن الدخان أيضاً من علامات الساعة، ولكنه ليس متعلقاً بهذه الآية، والله أعلم.
قال سبحانه: ﴿فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ﴾ [الدخان: ١٠] أي: بدخان واضح جلي أو مبين.