تفسير قوله تعالى: (وإن لم تؤمنوا لي فاعتزلون إنهم جند مغرقون)
قال الله تعالى: ﴿وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ﴾ [الدخان: ٢١] أي: وإن لم تؤمنوا فابعدوا عني وذروني أدعو إلى ربي، واتركوني آخذ قومي وأخرج من هنا، ((وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ))، وهذه الآية يقرؤها ورش عن نافع: ((وإن لم تؤمنوا لي فاعتزلوني)) مثل: ((ترجموني))، هذا في حالة الوصل، وأما في الوقف فيقرؤها بالسكون على النون، ويعقوب يقرؤها بالياء: ((فاعتزلوني)) وصلاً ووقفاً.
فقوله: ((وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي)) أي: إن لم تصدقوني ولم تؤمنوا بالله وقد أتيتكم بالبراهين فاعتزلون، أي: دعوني ولا تؤذوني، وذروني أخرج من هنا، فلما استيئس موسى من فرعون وقومه أن يؤمنوا بعد كل هذه الآيات دعا ربه سبحانه، ﴿فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ﴾ [الدخان: ٢٢] أي: إن هؤلاء قوم أجرموا في حق الله عز وجل، وفي حق موسى النبي عليه الصلاة والسلام، وفي حق بني إسرائيل.
فهؤلاء قوم مجرمون؛ لأنهم أجرموا وأفسدوا وكفروا، فجاء الجواب من الله: ﴿فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ﴾ [الدخان: ٢٣]، والسرى: المشي والسفر بالليل، فقال هنا سبحانه: ((فأسر)) من أسرى، وأيضاً من سرى، فهي ثلاثية ورباعية، وفيها قراءتان أيضاً: قراءة الجمهور: ((فأسرِ)) بهمزة قطع من الرباعي من ((أسرى))، وقرأها من الثلاثي ((فاسر)) نافع وأبو جعفر وابن كثير.
فقوله: ((فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ)) يقول الله عز وجل لموسى: أسر، أي: اخرج بالليل أنت وقومك، وهذا لما أذن لهم فرعون، وأخبر الله موسى بأن فرعون سينكث ما وعدكم به، وسيخلف وعده معكم، فاخرجوا.
فأمره الله أن يتجه إلى البحر الأحمر، فلما وصل موسى وقومه إلى ساحل البحر، لحقهم فرعون وجنوده، فأصاب بني إسرائيل الرعب الشديد، وقالوا له: البحر من أمامنا وفرعون من خلفنا يوشك أن يصل إلينا ويدركنا، وهنا يأتي أمر الله سبحانه: ﴿فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ * وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُندٌ مُغْرَقُونَ﴾ [الدخان: ٢٣ - ٢٤]، وقال لقومه عندما أدركهم فرعون: ﴿قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ﴾ [الشعراء: ٦٢] أي: لا تخافوا إن ربي سيهدين، وهو معي سبحانه وتعالى، هو وربي الذي أمرني أن أمشي إلى هذا المكان.
وجأر بنو إسرائيل بالدعاء إلى الله، وهنا جاء أمر الله سبحانه، قال تعالى: ﴿اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ * وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الآخَرِينَ﴾ [الشعراء: ٦٣ - ٦٤] أي: حتى يروا هذه المعجزة وهذه الآية التي حدثت، لعلهم يعتبرون بها، وكانت آية أخرى من الآيات التي يرونها أمامهم، فإن موسى لما ضرب بعصاه البحر انفلق البحر وقد كانت عصا موسى آية من الآيات، فإذا ألقاها كانت حية تسعى، وألقاها أمام السحرة فإذا هي تلقف ما يأفكون، وضرب بها الحجر فانبجست منه اثنتا عشرة عيناً، وضرب بها البحر فيبس البحر، وقد قال له الله: ﴿وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى * قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى﴾ [طه: ١٧ - ١٨] يعني: أمشي عليها، وأهش بها وأضرب بها الشجر حتى يسقط الورق فتكأله الغنم، ﴿وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى﴾ [طه: ١٨] أي: أستخدمها في أشياء أخرى، فأمره الله بإلقائها، فألقاها فإذا هي حية تسعى ﴿فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى﴾ [طه: ٦٧]، وهذا أمر الله: ﴿إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ [مريم: ٣٥].
ثم قال لموسى عليه الصلاة والسلام: هذه عصاك فخذها، وهي على الأرض قد صارت ثعباناً، فأمسك موسى هذا الثعبان فرجع عصاً مرة ثانية، وكأن الله عز وجل يمرن موسى حتى لا يفزع أمام فرعون حين يلقيها فتصير ثعباناً، فلما كان أمام فرعون ألقاها وهو رابط الجأش ثابت، وهنا أمره الله بأن يضرب بالعصا البحر، فكانت آية عجيبة جداً، فقد ضرب بهذه العصا البحر العظيم العميق فانفلق البحر قسمين، ووقف الموج كأنه الثلج، وصارت الأرض أمامه يابسة، فنزل موسى وقومه في هذه اليابسة، ومروا منها، وأراد الله عز وجل أن يرى فرعون هذا الذي حدث من أن الأرض أمامه صارت يابسة، لعله يؤمن ويرجع عما هو فيه.
قال تعالى: ﴿وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الآخَرِينَ﴾ [الشعراء: ٦٤] أي: قربنا هؤلاء الآخرين، وبدأ موسى يدخل في هذا البحر الذي صار طريقاً يابساً، وكان قوم موسى في غاية الرعب ينظرون وراءهم، وموسى في غاية الاطمئنان بربه سبحانه وتعالى، فلما كان موسى وقومه في وسط البحر وصل فرعون ومن معه إلى أول البحر، فرأوا آية من الآيات ولكن فرعون بطغيانه ظن نفسه آمناً، وكم أُخذ آمن من مأمنه، وقد أخذه تعالى من قصره من وسط جنوده حتى يغرقه في هذا المكان، وهو يرى الآيات البينات أمامه، قال تعالى: ﴿وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الآخَرِينَ * وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ﴾ [الشعراء: ٦٤ - ٦٥]، فلما خرج موسى وقومه من الناحية الأخرى وصار فرعون وجنوده في وسط البحر جاء أمر الله عز وجل، فانطبق البحر عليهم، وأغرق الله عز وجل فرعون وجنوده، ومضى مثل الأولين، فجأر فرعون وصاح وصرخ ودعا: ﴿آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ [يونس: ٩٠] يعني: الآن صدقت وآمنت، ولم يقل: آمنت بالله، وإنما قال: (آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل)، وكأنه يقول: نجني كما نجيتهم، فإيماني مثلهم، وبعد ذلك يرجع إلى كفره لعنة الله عليه، فقال له الله عز وجل: ﴿فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً﴾ [يونس: ٩٢] أي: سننجي بدنك فقط؛ حتى يرى الناس أن هذا هو فرعون الذي زعم أنه رب الناس.
وهنا قال الله سبحانه: ﴿وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا﴾ [الدخان: ٢٤] أي: واترك البحر ساكناً على ما أمر الله سبحانه وتعالى، فإن العصا ليست هي التي فلقت البحر، ولكنه أمر الله سبحانه، وهذا إنما هي سبب من الأسباب.
قال تعالى: ((وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُندٌ مُغْرَقُونَ)) (ورهواً) أي: يابساً وساكناً كالجوبة، أي: كالحفرة، فإن الموج انحسر شمالاً حتى صار البحر كالحفرة في الأمام ومر موسى ومن معه، وأطبق البحر على فرعون وجنوده، فكان هذا آية من الآيات العجيبة جداً.
وعندما يتفكر الإنسان في قدرة الله سبحانه وتعالى يعلم أن هذه العقوبة ليست خاصة بفرعون وجنوده، والدليل على ذلك هو ما حدث في تسونامي في بلاد المسلمين من بلاد أندونيسيا، فقد كان الصيادون على شاطئ البحر يصطادون، وكان في هذه الشواطئ النساء العرايا، وكان فيها بلاء، فإذا بأمواج البحر تنحسر على بعد اثنين كيلو، فوجدوا أمامهم السمك على الأرض اليابسة، فجروا وراء السمك، ودخلوا اثنين كيلو في البحر وراء السمك حتى يأخذوها، ونسوا ما حصل لفرعون، فلما وصلوا إلى السمك جاءهم الطوفان العجيب، فأخذهم وارتفع بهم وأهلكهم ودمرهم، وجاءهم أمر الله سبحانه وتعالى، وقد ظنوا أنهم في أمان؛ لأن البحر صار يابساً، فنزلوا ليأخذوا ما فيه، فإذا بالأمواج تأتي عليهم، وكما صنع بفرعون وجنوده صنع بهؤلاء، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
فليعتبر الإنسان من القصص القرآنية، وليعلم أن قصة فرعون ليست للتسلية، وإنما ليعتبر أولو الألباب، أي: إذا صنعتم صنيعهم أصابكم البلاء من الله كما أصابهم، فلا تعلوا على الله، ولا تبتعدوا عن دين الله، واحذروا من الفساد، ومن العلو والاستكبار، فإن الله عز وجل لما أخذ فرعون وقومه جعلهم عبرة، كما قال تعالى: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ﴾ [الشعراء: ٨ - ٩].
نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.


الصفحة التالية
Icon