تفسير قوله تعالى: (أهم خير أم قوم تبع)
قال الله عز وجل: ﴿أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ؟﴾ [الدخان: ٣٧]، أي: أن هؤلاء المغرورين، وهؤلاء القلة الحقيرون، هؤلاء القرشيون الذين هم ذنب الدنيا كلها، فبجوارهم فارس والروم، فلا الفرس يحسبون لهم قيمة، ولا الروم كذلك يحسبون لهم قيمة، وإنما هم قاعدون في حماية هؤلاء وهؤلاء، ويتشدقون بأنهم الملوك، فيخرج منهم الوفد لزيارة الروم أو الفرس، فيفدون عليهم ضيوفاً ويتعززون بذلك، وأما هم فلا قيمة لهم مع وجود البيت الحرام في بلدهم، فهم قد أدخلوا الأصنام في بيت الله الحرام، وعبدوا غير الله وأشركوا معه غيره، فأبغضهم الله سبحانه وتعالى، فجعل في قلوبهم الحسد والغل والبغض لبعضهم البعض، فلا يكون أحدهم مع الآخر إلا لأهداف دنيوية، ويغير بعضهم على بعض، ويأخذ بعضهم مال بعض، ويسبي بعضهم نساء بعض، فهذه كانت عادة هؤلاء الناس، فالله عز وجل يقول لهؤلاء الجهلة الذين يجادلون النبي صلى الله عليه وسلم: أأنتم خير؟ أأنتم أقوى عدداً؟! أأنتم أكثر عدداً؟! أأنتم فيكم الخيرية أم قوم تبع الذين فتحوا الدنيا بأجمعها؟ و (تبع) لقب لمن يكون ملكاً على اليمن، وكذلك كل ملك يملك مصر يقال له: فرعون، وكل ملك يملك الحبشة يقال له: النجاشي، وكل ملك يملك الفرس يقال له: كسرى، ومن يملك الروم يقال له: قيصر، فـ (تبع) لقب لكل من ملك حمير، وسمو: (تبعاً)؛ لأنه يتبع بعضهم بعضاً، فهذا الملك ويتبعه غيره.
وكان أشهرهم هو: أسعد الحميري أبو كريب، فهذا كان بينه وبين النبي ﷺ ألف سنة، وقد جاء في الحديث الصحيح الذي رواه أبو داود من حديث أبي هريرة أن النبي ﷺ قال: (ما أدري أتبع لعين أم لا؟)، أي: أنا لا أعرف، أتبع ملعون كافر أم لا؟ (وما أدري أعزير نبي أم لا؟)، فكان عليه الصلاة والسلام لا يدري في وقت من الأوقات، ثم أخبره الله سبحانه وتعالى بإسلام هذا الرجل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تسبوا تبعاً فإنه كان قد أسلم)، فكان مسلماً رضي الله عنه، لكن ما الذي جعله يسلم مع أن قومه أهلكهم الله عز وجل؟ فقول الله عز وجل: أهؤلاء المشركون خير أم قوم تبع، ليس المراد ذات تبع؛ لأنه كان قد أسلم، وإنما المراد قومه، فقال الله عز وجل: ﴿أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾ [الدخان: ٣٧]، والذين من قبلهم من القرون، كقوم نوح وعاد وثمود وغيرهم، أهلكناهم جميعاً، وقد كانوا كثيرين جداً.
وتبع هذا الذي فتح البلاد قالوا: إنه وصل إلى سمرقند فدمرها، ثم أعاد بناءها مرة أخرى، وكأن الله يقول لقريش: إن هذا الرجل من عندكم، وكان هو أول من كسا الكعبة، والكفار من قريش عندما أرادوا أن يبنوا الكعبة لم يجدوا أموالاً من الحلال، ولذلك لم تبن الكعبة على قواعد إبراهيم، فالجزء الذي من الحجر يكون ستة أذرع أو سبعة أذرع، فكان من المفروض أن يكون بداخل الكعبة، لكنهم أخرجوه، لقلة المال، فأين الخير في قريش؟! أأنتم أكثر مالاً وعدداً وقوة أم قوم تبع الذين فتح بهم تبع البلاد كلها؟! فدار بهم في الدنيا حتى وصل إلى المدينة، فقاتل أهلها، وقوم تبع كانوا أقوياء في العتاد والعدة، ولما كان هنالك أخبره بعض أهل الكتاب فقال له: إن هذه المدينة مهاجر نبي في يوم من الأيام، أي: النبي محمد صلوات الله وسلامه عليه فأسلم الرجل، وصدق بالنبي صلوات الله وسلامه عليه، وترك المدينة وذهب إلى الكعبة فكساها، وكان أول من كسا الكعبة هو تبع رحمه الله، وأما قومه فقد كانوا أشراراً.
فالغرض: أن الله عز وجل أخبر عن قوم تبع، ولم يقل الله: تبع، كما ذكر فرعون، ولكن ذكر قومه، ولذلك أبي بن كعب يقول: إن الله عز وجل ذكر قوم تبع بأنهم كانوا أشراراً، وأما تبع فكان رجلاً مسلماً، ﴿أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ﴾ [الدخان: ٣٧]، أي: أجرموا في حق خالقهم سبحانه، وأجرموا في حق الخلق فاستحقوا العقوبة، فإذا كنا قد أهلكنا قوم نوح وعاد وثمود، وأهلكنا أصحاب الأيكة، وأهلكنا قوم تبع، فهل أنتم القلة القليلة لا نقدر عليكم؟ وأنتم الذين تعنتم وكأن لكم قدراً كبيراً، وكأن لكم قيمة، كلا لكم شيء، ولا تستحقون أن يرد عليكم، قال: ﴿فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنتَظِرُونَ﴾ [السجدة: ٣٠]، حتى أهلك الله عز وجل من شاء منهم في يوم بدر، وآمن من شاء الله عز وجل منهم بعد ذلك واتبع النبي صلى الله عليه وسلم، وحسن إسلامه، وجاهد في سبيل الله عز وجل.
نسأل الله عز وجل أن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.


الصفحة التالية
Icon