تفسير قوله تعالى: (حم، تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم)
قال الله تعالى: ﴿حم * تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ﴾ [الجاثية: ١ - ٢] دائماً تجد بعد ذكر فواتح السور الإشارة إلى القرآن، وفواتح السور فيها التحدي بأن هذا القرآن العظيم مكون من حروف أنتم تنطقون بها وأنتم تحفظونها، فائتوا بمثل هذا القرآن، إن كنتم تقدرون فافعلوا، ثم قال: هاتوا عشر سور مثله مفتريات، ثم قال لهم: هاتوا سورة واحدة إن كنتم تقدرون على ذلك.
وهنا قال تعالى: ((تَنزِيلُ الْكِتَابِ)) أي: هذا تنزيل الكتاب، على أن قوله: ((تنزيل)) خبر، أو أن قوله: ((تَنزِيلُ)) مبتدأ، وجملة: ((مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ)) الخبر.
فقوله: ((تَنزِيلُ الْكِتَابِ)) فيه إشارة إلى صفة من صفات الله عز وجل وهي صفة العلو؛ لأن الكتاب نزل من عنده سبحانه وتعالى، جاء من عند الله العزيز الحكيم الذي هو في السماء سبحانه وتعالى، كما قال تعالى: ﴿أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ * أَمْ أَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ﴾ [الملك: ١٦ - ١٧] فله العلو سبحانه وتعالى، علو الشأن وعلو القهر وعلو الذات، فهو فوق سماواته مستو على عرشه، بائن من خلقه سبحانه وتعالى.
فالكتاب نزل من عند رب العالمين، نزل بواسطة روح القدس جبريل الأمين عليه السلام على النبي صلوات الله وسلامه عليه.
قال تعالى: ﴿تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ﴾ ذكر هنا ثلاثة من أسمائه سبحانه: (الله) وهو اسمه الأعظم سبحانه وتعالى، لفظ الجلالة (الله) المعبود سبحانه وتعالى.
ثم (العزيز) أي: الذي له العزة وله الكمال سبحانه وتعالى، وهو العزيز الغالب الذي لا يغالب، الذي إذا أمر بشيء لابد وأن يكون على ما أمر به سبحانه، الذي لا يمانع، وإذا نهى عن شيء سبحانه وتعالى وأراد شيئاً لابد وأن يكون كما يريد سبحانه وتعالى.
(الحكيم) أي: أنزل الكتاب بحكمته سبحانه وتعالى، وجعله منجماً، وكانت الكتب قبل ذلك تنزل على الرسل مرة واحدة، والقرآن نزل إلى بيت العزة في السماء الدنيا في ليلة القدر، ونزل بعد ذلك على النبي ﷺ في ثلاث وعشرين سنة، من الله الحكيم سبحانه الذي له الحكمة البالغة، بأن جعل هذا القرآن العظيم على هذا النحو الذي نقرؤه ونحفظه ونتلوه، وجعل فيه هذه الأحكام العظيمة، وأنزله على النبي الكريم، واختاره من بين الخلق أجمعين عليه الصلاة والسلام، وجعل هذه الأحكام التي في القرآن أحكاماً في العهد المكي وأحكاماً في العهد المدني، ونسخ ما شاء من الأحكام بحكمته سبحانه، فهو الذي يحكم كل شيء سبحانه وتعالى، ويحكم في كل شيء سبحانه، فهو الحكيم الذي له الحكمة، والحكيم الذي له الحكم، والحكيم الذي يخلق سبحانه وتعالى ويقضي، ألا له الخلق وله الأمر سبحانه وتعالى، فهو الحكيم الذي لا تجد في صنعته خللاً ولا تقصيراً سبحانه وتعالى.