البشارة لعبد الله بن سلام رضي الله عنه بالجنة
روى الإمام البخاري ومسلم من حديث عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه سعد رضي الله عنه قال: (ما سمعت النبي ﷺ يقول لأحد يمشي على الأرض: إنه من أهل الجنة إلا لـ عبد الله بن سلام)، مع أن سعد بن أبي وقاص أحد العشرة المشهود لهم بالجنة، فكأنه يهضم نفسه ويذكر هذا الرجل رضي الله عنه، أو كأنه يذكر أنه ما سمع النبي ﷺ يفرد أحداً أنه من أهل الجنة إلا هذا، وإلا فقد ذكر النبي ﷺ عشرة مبشرين بالجنة، فقال: (أبو بكر في الجنة، وعمر في الجنة، وعثمان في الجنة، وعلي في الجنة، وسعد بن أبي وقاص في الجنة، وسعيد بن زيد في الجنة، وعبد الرحمن بن عوف، وأبو عبيدة بن الجراح) الحديث، رضي الله تبارك وتعالى عن الجميع، فهؤلاء شهد لهم النبي ﷺ بأنهم في الجنة.
وأما عبد الله بن سلام فكأنه ذكره وحده صلى الله عليه وسلم، وكان السبب في ذلك: أن عبد الله بن سلام رضي الله عنه رأى رؤيا في المنام وقصها على النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر النبي ﷺ ذلك.
ففي الصحيحين من حديث محمد بن سيرين عن قيس بن عبادة قال: كنا في حلقة فيها سعد بن مالك وابن عمر، فمر عبد الله بن سلام فقالوا: هذا رجل من أهل الجنة، قال: فتبعته فقلت له: إنهم قالوا: كذا وكذا أي: أنك من أهل الجنة، فقال: سبحان الله! ما ينبغي لهم أو ما كان ينبغي لهم أن يقولوا ما ليس لهم به علم.
وهذا من تواضعه رضي الله عنه، وإلا فقد عرف أن النبي ﷺ قال ذلك، ولكن الإنسان المؤمن القوي الإيمان يخاف من مكر الله سبحانه، ويهضم نفسه حتى لو قيل له إنه في الجنة، فهو يقول لنفسه: ومتى يكون في الجنة؟ ألا يمكن أن يدخل النار أولاً ثم يخرج منها إلى الجنة؟ فالنهاية ستكون في الجنة، ولكن قبل ذلك لا يعرف ما الذي سيكون فهو يتهم نفسه دائماً.
فهذا الرجل الصالح رضي الله عنه لما قيل فيه ذلك قال: (سبحان الله! ما كان ينبغي لهم أن يقولوا ما ليس لهم به علم، إنما رأيت كأنما عموداً وضع في روضة خضراء فنصب فيها، وفي رأسها عروة، وفي أسفلها منصف)، والمنصف: الوصيف، أي: أنه في المنام رأى روضة خضراء، -وهي: البستان العظيم- في أوسط هذه الروضة عمود، وفي أعلى العمود عروة، -والعروة هي الحلقة، أي: ما يتعلق بها، أو يشد بها الحبل- وفي أسفلهامنصف، (فقيل: ارق) أي: اصعد هذا العمود الذي في وسط هذه الروضة الخضراء، فقال: (فرقيته حتى أخذت بالعروة، فقصصتها على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يموت عبد الله وهو آخذ بالعروة الوثقى)، فهذا الذي بلغه رضي الله تبارك وتعالى عنه في ذلك: أنها رؤيا منام، وقصها للنبي صلى الله عليه وسلم، فأخبره بهذا الشيء، فهو يقول: ما قال لي أنت في الجنة، وإنما قال: إنني سأموت على الإسلام، ومعلوم أن من يموت على الإسلام أنه متمسك بالعروة الوثقى، قال الله عز وجل: ﴿لا انفِصَامَ لَهَا﴾ [البقرة: ٢٥٦] أي: لا تنفصل أبداً عن طريق الله سبحانه، وما ينقطع عنها، بل تأخذه هذه العروة إلى جنة الله سبحانه.
فهذا جاء في هذا الحديث، لكنه يتواضع ويهضم نفسه، ويقول عن نفسه: إن الذي فسره النبي ﷺ لي أنني أستمسك بالإسلام إلى أن أموت، وأما أني سأكون في الجنة أو في النار فهذا أمر لا يعلمه إلا الله سبحانه.
وقد جاء في حديث آخر رواه الإمام أحمد من حديث سعد بن أبي وقاص أيضاً: (أن النبي ﷺ أتي بقصعة فأكل منها، ففضلت فضلة) أي: بقي في القصعة طعام، فقال صلى الله عليه وسلم: (يجيء رجل من هذا الفج من أهل الجنة يأكل هذه الفضلة)، والنبي ﷺ لا يعلم الغيب، ولكن الله عز وجل يطلعه على ما شاء من الغيب، وقد كان سعد بن أبي وقاص ترك أخاه عمير بن أبي وقاص يتوضأ ويلحق به، فتمنى سعد أن عميراً يأتي، قال: (فقلت: -يعني: في نفسه- وعمير! قال: فجاء عبد الله بن سلام فأكلها).
فالإنسان قد يتمنى شيئاً ويكون الأمر على خلاف ما يتمناه ويريده، فـ سعد يتمنى أن يكون أخاه عمير ولكن الله أعلم من يستحق هذه البشارة التي قالها النبي صلى الله عليه وسلم، فيستحقها من لا يفتن بها، ويستحقها من لا يقول: أنا في الجنة.
ولذلك فالله عز وجل ذكر عبد الله بن سلام هنا ومدحه، فقال تعالى: ((وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ)) أي: آمن هذا الرجل، فقوله: ((َشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ)) أي: على مثل ما جئتم به، فشهد موسى على التوراة، ومحمد ﷺ على هذا القرآن العظيم، وقد شهد هذا الرجل على أن التوراة كتاب موسى، وعلى أن هذا القرآن كتاب محمد صلوات الله وسلامه عليه، فقد شهد على هذا القرآن أنه حق، وأنه كتاب رب العالمين، وأن النبي حق صلوات الله وسلامه عليه.
((َشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ)) هذا الرجل الفاضل، ((وَكَفَرْتُمْ)) أي: كفر الكفار واليهود، ولم يؤمنوا بالنبي صلوات الله وسلامه عليه.