تفسير قوله تعالى: (قال رب انصرني بما كذبون)
فدعا نوح لربه: ﴿قَالَ رَبِّ انصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ﴾ [المؤمنون: ٢٦]، هذا في النهاية، وفصل الله عز وجل ذلك في سورة هود تفصيلاً عظيماً، وفصله في غير ما موضع من القرآن، ولكن من أطول ما جاء في قصة نوح وقومه في سورة هود، وكذلك في سورة يونس، وفي سورة نوح، ففي سورة نوح عليه الصلاة والسلام: ﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا * وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا﴾ [نوح: ٥ - ٧].
لما تدعو أنساناً على الأقل يسمع ما الذي تقوله، ولكن هؤلاء كانت قلوبهم مغلفة بالكفر، وكانت مظلمة، فلم يستمعوا إلى نبيهم، بل وضعوا أصابعهم في آذانهم، وليس أناملهم، بل كانوا يضعون أصابعهم كلها، حتى لا يسمعوا كلمة يقولها نوح عليه الصلاة والسلام: ((وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ)) فلم يغمضوا أعينهم فحسب، بل إنهم كانوا يضعون ثيابهم على وجوههم حتى لا يروا نوحاً عليه الصلاة والسلام: ((وَأَصَرُّوا))، مستكبرين، (وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا)) عظيماً.
ثم قال: ﴿ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا﴾ [نوح: ٨] أي: أمامهم وهم مجتمعون مع بعضهم، ﴿ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا﴾ [نوح: ٩]، فلم ينفع السر ولم تنفع العلانية مع هؤلاء، ولم يدعهم يوماً أو ليلة أو سنة أو سنتين، بل ظل يدعوهم ألف سنة إلا خمسين عاماً، وفي النهاية دعا ربه سبحانه: ﴿وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا﴾ [نوح: ٢٦]، متى دعا هذه الدعوة؟ لما أخبره الله سبحانه: ﴿وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ﴾ [هود: ٣٦]، فيا ترى كم الذي آمن من قبل؟ ﴿وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ﴾ [هود: ٤٠] أي: أعداد قليلة، وهم الذين استوعبتهم السفينة التي صنعها نوح عليه الصلاة والسلام، فما آمن معه خلال هذه القرون وخلال هذه الدهور إلا القليلون.
فهنا يقول الله سبحانه وتعالى أن نوحاً دعا ربه: ((قَالَ رَبِّ انصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ))، دعا دعاء الإنسان المغلوب، ولذلك قال الله في الآية الأخرى: ﴿فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ﴾ [القمر: ١٠] أي: غلبوني فلست قادراً على أن أدعوهم، فالله عز وجل أخبره أنه لن يؤمن أحد بعد ذلك، فلما علم أنه لا يوجد إيمان من هؤلاء دعا عليهم وقال: ﴿رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا * إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا﴾ [نوح: ٢٦ - ٢٧]، كيف عرف أنهم لا يلدون إلا فاجراً كفاراً؟ بإخبار الله عز وجل له أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن، حينها دعا عليهم وقال: ((رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا)) أي: لا تذر أحداً على الأرض من الكافرين: ((إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا)).