أغراض السورة ومقاصدها
الغرض من هذه السورة واضح من أولها، فهي تحريض للمؤمنين على أن يدفعوا عن أنفسهم وعن دينهم، وأن يطلبوا الجنة بالجهاد في سبيل الله سبحانه وتعالى، ولذلك معظم أغراض هذه السورة التحريض على الجهاد في سبيل الله عز وجل، والانتصار لهذا الدين العظيم، وذكر ثواب ذلك.
ولذلك بدأت هذه السورة بذكر ﴿الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ الله﴾ [محمد: ١]، ليتذكر المؤمن أن هؤلاء كفرة، مجرمون، يكفرون بربهم سبحانه وتعالى، ويجحدونه سبحانه، بل ويصدون المؤمنين عن سبيل الله، فأول آية في السورة فيها تحريض للمؤمنين على هؤلاء الذين يصدونهم عن دينهم، وطردوهم من مكة، ثم جاءوا إليهم إلى المدينة ليقاتلوهم، وليضيعوا عليهم دينهم، فقد افتتح الله عز وجل هذه السورة بما يثير حنق المؤمنين على المشركين لكونهم كفروا بالله وصدوا عن سبيله سبحانه وتعالى.
وكذلك من أغراض هذه السورة أن الله عز وجل بين للمؤمنين أن الكافر غير مسدد وغير موفق؛ لأن التوفيق من الله سبحانه وتعالى، قال تعالى: ﴿وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ﴾ [هود: ٨٨]، فالله هو الذي يوفقك، أما الكافر فلا يستحق التوفيق، فالله عز وجل يقول للمؤمنين: قاتلوا هؤلاء، فإني سأثبتكم، وأنصركم، وأسدد رميكم، ﴿وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى﴾ [الأنفال: ١٧]، ﴿قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ﴾ [التوبة: ١٤]، وهذا التأييد كله إذا كان القتال في سبيل الله عز وجل وليس في سبيل الدنيا، وليس رياءً ولا سمعة، فإذا أخلص المؤمنون فإن الله وعدهم بأنه سيكون معهم سبحانه وتعالى، وأعلمهم سبحانه بأن الكفار لن يسددوا، بل إن الله سبحانه وتعالى سيحبط أعمالهم، ثم أخبر المؤمنين بأنهم لا بد وأن يقاتلوا في سبيل الله عز وجل من أجل إعلاء كلمة الله سبحانه، ونصر دينه سبحانه وتعالى، وأنه لو شاء لنصر دينه من غير جهاد أو مجاهدين، ولو شاء لمحق الكفر والكافرين، ولكن لحكمة من الله عز وجل لا بد من الابتلاء، والتنازع بين هؤلاء وهؤلاء ليعلم من الذي يثبت على دينه سبحانه وتعالى.
وفي هذه السورة وعد الله المجاهدين بالجنة، وأنه سيعطيهم الدرجات العلى منه سبحانه، كما أنه أمر المسلمين بمجاهدة الكفر والكافرين، ونهاهم أن يدعوا إلى السلم وإلى التراخي، فليس المسلم كالكافر، فلا تهنوا، أي: إياكم أن يصيبكم الهوان، فإذا أنت -أيها المسلم- أهنت نفسك أهانك غيرك، فلا تنظر لنفسك بعين التحقير مع هؤلاء الكفار.
ولذلك يشرع للمؤمن أن يختال على الكفار في ميدان الجهاد والقتال في سبيل الله سبحانه، ولا يري من نفسه الضعف، ولكن يري من نفسه القوة والعزة، فهو معتز بدين الله سبحانه، ﴿فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ﴾ [محمد: ٣٥]، فإذا كان الله سبحانه معكم أيها المؤمنون فأنتم الأعلون، والله سبحانه لن ينقصكم ثواب أعمالكم، فما الذي سيجعلكم تهنون أمام الكفار؟ فالله سبحانه يدعو المؤمنين لجهاد الكفار إلى أن ينتصروا عليهم، فإن جنحوا للسلم فاجنح لها، أما أن تجنح للسلم وتجنح للتراخي في حال انهزامك وتلغي الجهاد في سبيل الله عز وجل، فإن الله لم يأمرك بذلك، طالما أن دين الله يتعرض له الكفار بالإيذاء، ويشرع جهاد الدفع والابتداء إلى أن يدخل الناس في دين الله أو يتركوا المسلمين يدعون الناس إلى الله سبحانه من غير أن يصدوا عن سبيل الله سبحانه وتعالى، عند ذلك تشرع الأحكام الأخرى التي ذكرها الله سبحانه وتعالى في كتابه.
أيضاً من أغراض هذه السورة إخبار المشركين بأن الله عز وجل سيصيبهم بمثل ما أصاب السابقين قبلهم، ﴿فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ﴾ [يونس: ١٠٢] أي: لينتظروا ما تكون النتيجة من قتالهم المؤمنين.
ومن أغراضها أيضاً وصف الجنة وما فيها من النعيم العظيم ﴿مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى﴾ [محمد: ١٥]، ليشتاق المؤمنون إلى الجنة، فكأنه يقول للمؤمن: الجنة أمامك، وما بينك وبين الجنة إلا أن تقاتل في سبيل الله، مخلصاً لله سبحانه، أو تموت وفي نيتك أن تجاهد في سبيل الله، وفي قلبك إيمان بالله سبحانه.
ومن أغراضها: وصف النار وما فيها، وذكر طعام أهلها وشرابهم الذي يقطع أمعائهم، فهل يستوي ما في الجنة وما في النار؟ لا يستويان أبداً.
أيضاً من أغراضها وصف حال المنافقين، واندهاشهم وحيرتهم إذا أنزلت سورة وذكر فيها القتال، فهم في وقت السلم يقولون: متى نجاهد؟ ﴿وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ [محمد: ٢٠] أي: كل من يتلفظ بالإيمان ﴿لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ * طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ﴾ [محمد: ٢٠ - ٢١] أي: بدل أن يقولوا: لماذا لم تنزل آيات فيها ذكر القتال يطيعون الله عز وجل، ويأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، حتى إذا أنزلت الآيات في القتال جاهدوا في سبيل الله سبحانه وتعالى.
أيضاً من أغراضها: تهديد المنافقين بأن الله سيفضحهم، وأنه سيريهم نبيه ﷺ بأسمائهم فهو يرى سيماهم، وعلامات المنافقين واضحة، يعرفهم النبي ﷺ بها.
﴿وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ﴾ [محمد: ٣٠] أي: لعرفتهم بأوصافهم وأسمائهم ولكن تعرفهم في لحن القول، وتعرف إشاراتهم وأفعالهم.
ثم ختم الله عز وجل السورة بالإشارة إلى تحقق وعد الله للمسلمين بنوال السلطان، وحذرهم إذا صار إليهم الحكم، وصار بين أيديهم الملك أن يفسدوا في الأرض، وأن يقطعوا أرحامهم، ﴿فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلُيتمْ﴾ [محمد: ٢٢] أي: إذا كان الأمر كذلك ﴿أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ﴾ [محمد: ٢٢ - ٢٣].
كذلك في هذه السورة الحث على تدبر كتاب الله سبحانه، ﴿أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾ [محمد: ٢٤]، فهو يصف الإنسان الذي يسمع القرآن فلا يعقله ولا يتدبره بأنه مقفول على قلبه فلا يعرفه ولا يفهمه، فالإنسان المؤمن إذا سمع كتاب الله لا بد أن يرعه سمعه وقلبه وأن يتأمل وأن يتدبر فيه، وخاصة آيات الأحكام والآيات التي تتحدث عن الكون كخلق السماوات والأرض، فإنه لما نزل على النبي ﷺ قول الله: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ﴾ [آل عمران: ١٩٠] قال: (لقد أنزلت علي الليلة آيات ويل لمن سمعها ثم لم يتفكر فيها)، فإذا سمعت آيات الله عز وجل وجب عليك أن تتأمل وأن تتدبر هذه الآيات حتى لا تدخل في الوعيد الذي ذكره الله سبحانه في الآية السابقة.