معنى قوله تعالى: (ذلك ولو يشاء الله لانتصر منهم)
قال الله عز وجل: ﴿وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ﴾ [محمد: ٤]، فالله هو القوي العزيز سبحانه وتعالى، فلو شاء لخسف بالمشركين الأرض، ولو شاء لأنزل عليهم آية من السماء أو عذاباً من الأرض، ولكن حكمته سبحانه تقتضي أن يبتلي الناس بعضهم ببعض، فالدنيا زمن امتحان، والإنسان يريد أن يعيش في هذه الدنيا من غير امتحان بتاتاً، والله لم يجعل هذه الدنيا جنة، بل سميت دنيا ليعلم أن الآخرة هي العليا، فالدنيا هي أرض البلاء ومكان الامتحان الذي يمتحن فيه العبد، وستترك هذه الدنيا ولن ترجع إليها مرة ثانية، ولله الحكمة في وجودك في الدنيا في هذا الوقت الذي أنت فيه، ولو شاء الله عز وجل لجعل الناس أمة واحدة، ولجعل الكل على الإسلام، ولو شاء الله عز وجل لنصر المسلمين في كل موطن من المواطن، لكن النبي ﷺ دخل في قتال كثير مع الكفار، فقد جاهد النبي ﷺ وأرسل بعوثه وسراياه التي بلغت تسعين غزوة وسرية، وذكر بعضهم: أنها بلغت مائة وعشرين أو مائة وثلاثين غزوة وسرية، وغزا النبي ﷺ بنفسه في نحو تسع عشرة غزوة صلوات الله وسلامه عليه، وكل ما غزا فيه النبي ﷺ من التسع عشرة غزوة كانت في المدينة، فقد مكث النبي ﷺ ثلاث عشرة سنة يدعو إلى الله سبحانه في مكة، ولم يكن فرض عليه أن يجاهد في سبيل الله، ثم لما هاجر إلى المدينة ﷺ فرض عليه الجهاد في سبيل الله، وقد عاش النبي ﷺ في المدينة عشر سنوات، فإذا خرج بنفسه تسع عشرة مرة ﷺ فإنه سيكون قد خرج للجهاد مرتين في كل سنة صلى الله عليه وسلم، أما من جعل عدد البعوث والسرايا التي بعثها النبي ﷺ مائة وثلاثين، فلو أنه خرج في كل واحدة منها لشق ذلك على المسلمين، فسيخرج في السنة الواحدة ثلاثة عشر مرةً، وهذا عدد كبير جداً للخروج، فكيف سيدير شئون المسلمين ﷺ إذا فعل ذلك؟ لذلك: كان من الحكمة أن يخرج بنفسه في بعض السرايا وفي بعض الجيوش، ويخرج المسلمون المجاهدون في سبيل الله عز وجل في الباقي، ولو يشاء الله لانتصر من الكفار، ولكن المسلمين غلبوا في بعض الغزوات؛ ولله عز وجل الحكمة العظيمة في ذلك؛ وحتى لا يغتر المسلمون بالنصر دائماً، قال تعالى: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ﴾ [الأنفال: ٦٠]، وتوكلوا على الله سبحانه إن كنتم مؤمنين، فأحسنوا الإعداد، وأحسنوا الظن بالله سبحانه وتعالى، فإن الله عز وجل معكم، فإذا بعدتم عن ذلك خذلكم الله سبحانه وتعالى، كما قال سبحانه: ﴿إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾ [محمد: ٧]، ولو يشاء الله لانتصر من هؤلاء الكفار، ولكن ليختبر بعضكم ببعض، وليختبر المسلمين بالكفار، فالمسلم عندما يدخل في القتال فإنه إما قاتل أو مقتول، فهو مجاهد في سبيل الله عز وجل، فيبقى الاحتمالان موجودان، والله عز وجل يقول: ﴿وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ﴾ [محمد: ٤].
((والذينَ قُتِلُوا)) هذه قراءة حفص عن عاصم، وقراءة أبي عمرو البصري وكذلك يعقوب الحضرمي، أما باقي القراء فإنهم يقرءونها: (والذين قاتلوا في سبيل الله)، ولكل من القراءتين معنى، فمن قرأ: ﴿وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ﴾ [محمد: ٤] فالمعنى: أنهم قتلوا وصاروا شهداء عند الله عز وجل، فلن يحبط الله لهم عملاً، بل له الأجر والثواب لأنه جاهد في سبيل الله عز وجل، والله يوجهه إلى جنته سبحانه وتعالى، فيقول: ﴿وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ﴾ [محمد: ٤]، وأما من قرأ: (وَالَّذِينَ قاتلوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ) فإنه جعلهم أحياء يقاتلون في سبيل الله سبحانه، فالله عز وجل يقبل هؤلاء؛ لأنهم ثبتوا على دين الله سبحانه وتعالى، فالوعد إذاً لمن عاش وبقي مجاهداً في سبيل الله أن يثبته الله على هذا الدين، وألا يضله سبحانه وتعالى، وأن يهديه ويزيده هدى، أما الذي قتل وتوفي ومات في سبيل الله سبحانه فله هداية أخرى، فإن الله يهديه في قبره، ويهديه يوم القيامة على الصراط، ويهديه سبحانه لطريق الجنة، ويثبته الله سبحانه وتعالى في قبره فلا يفتنه سبحانه وتعالى، فالذين عاشوا لهم هداية معينة، وللآخرين هداية معينة وكل بحسبه.
قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ﴾ [محمد: ٤] أي: لن يضيع عليهم ثواب ما عملوا في الجهاد في سبيل الله سبحانه، بل سيزيدهم هداية وإيماناً حتى يتوفاهم على ذلك سبحانه وتعالى.


الصفحة التالية
Icon