تفسير قوله تعالى: (والذين كفروا فتعساً لهم وأضل أعمالهم)
قال سبحانه: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ﴾ [محمد: ٨] التعس أصله: التَعثر، تعس الإنسان بمعنى: انكب، وتعثر وسقط على الأرض.
وتطلق أيضاً التعاسة على الشقاء، وعلى الكآبة، وعلى الخيبة، وعلى الحسرة، وعلى الحرمان، وتطلق أيضاً على التدبير، والتدمير، والإهلاك، كل هذه المعاني جمعها الله عز وجل في هذه الكلمة للكفار، مكتوب عليهم الشقاء، مهما آتاهم الله عز وجل من ملك ومن قوة، ومن قدرة وغنىً ونساء، مهما آتاهم الله يستشعرون في قلوبهم التعاسة.
وتتجلى المظاهر الكاذبة والبراقة أمام الناس في قائد الفرس وهو جالس على سرير من ذهب، فيرعبه صحابي واحد، إذْ نظر إليه قائد الفرس فقال: إنما أنتم كالكلاب، ولولا أني أخاف أن تتنجس رماحنا لرميناكم! هذه نظرة هذا الكافر لهؤلاء الصحابة الأفاضل.
ولما مشى المغيرة بن شعبة وكان أعور رضي الله تبارك وتعالى عنه قال هذا الكافر لمن حوله: لقد صدق الأعور، صدق في اللقاء، وذلك لمَّا قال لهم: (إن كنا لأبعد الناس داراً، وأشد الناس جوعاً، وأعظم الناس شقاءً، وأبعد الناس من كل خير حتى بعث الله إلينا رسولاً، فوعدنا النصر في الدنيا، والجنة في الآخرة، فلم نزل نعرف من ربنا منذ جاءنا رسول الله ﷺ الفلاح والنصر حتى أتيناكم.
والكافر ينظر إليه ويقول: صدق فعلاً، هذا الكافر أظهر مظهر العظمة والفخامة أمام هذا الصحابي، لكن بعد ما انصرف إذا به يقول لمن حوله: لقد صدق فيما قال، وسيفعل ما يقول، وقبل أن يأتي المغيرة بن شعبة إليهم استشار قومه في أن يظهروا أمامهم بمظهر متقشف فيه حتى لا يطمعوا فيهم، أو يظهرون أمامهم بمظهر الملوك لكي يخوفونهم؟ كلهم قالوا: بل بمظهر العظمة والفخامة، وكان قبل ذلك خائفاً، وبعد ذلك ازداد رعباً، ورجع المغيرة قوياً في قلبه، شجاعاً في بدنه رضي الله تبارك تعالى عنه، يقول لمن حوله: والله ما تركتهم حتى أرعبت الكافر! هذا هو الفرق بين المؤمن وبين الكافر، الكافر وإن أظهر القوة هو في نفسه خائف وشقي، وفي نفسه الرعب من المستقبل، أمَّا المؤمن مطمئن بالله عز وجل، قال تعالى: ﴿أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾ [الرعد: ٢٨].
فالمؤمن مطمئن بالله عز وجل، أما الكافر: ﴿يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ﴾ [البقرة: ٩٦]، يريد أن يعيش كثيراً فيموت بعد ذلك ولا بعث حسب زعمه، ولما عرف اليهود أن مآلهم النار تطاولوا على النبي ﷺ وقالوا: سنمكث فيها سبعة أيام ثم تخلفونا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (اخسئوا والله لا نخلفكم فيها أبداً، ولا تخرجون منها أبداً).
فلذلك الكافر في تعاسة وفي شقاء، وهو مهما أوتي من بذخ في الدنيا يستشعر في نفسه أنه يفقد شيئاً، لذلك تجد من يسلم من هؤلاء يذكر أنه كان قبل أن يسلم في تعاسة وشقاء، وأنه كان يفقد شيئاً.
يجدون تعاسة في قلوبهم حتى وإن أظهروا أنهم أفضل من غيرهم، فمن أسلم منهم استشعر طعم الإيمان، واستشعر حلاوة هذا الدين، هذا الذي كان ينقصه، أما من بقي على مثل ما هو عليه ففي نفسه الشقاء، وفي نفسه الحرمان والخيبة كما قال الله عز وجل: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ﴾ [محمد: ٨]، في الدنيا وفي الآخرة.
ولذلك تجد أعلى معدل للانتحار في بلاد البذخ والرفاهية وفي بلاد الكفار، والآن عندهم أماكن للموت يسمونها موت الرحمة للانتحار، وهناك أطباء مستعدون لذلك، ومن أراد أن يموت يذهب إلى الأطباء ليعطوه حقنة يموت بسببها، ويشرعون قانوناً لمثل هذا! رجل لديه من الأموال الطائلة ما لديه، لكنه يريد أن يموت؛ لأنه يائس من الدنيا، فهو يستشعر الإحباط في نفسه، وليس بينه وبين الله عز وجل صلة، لكن المؤمن مهما ابتلي في الدنيا في نفسه أو في ماله، أو فيما يشاء الله سبحانه تجده صابراً محتسباً.
فإذا جاء البلاء فالمؤمن صابر؛ لأنه يعلم أن هذا البلاء قضاء من الله وقدر، فهو راضٍ بقضاء الله وقدره، وصابر لأمر الله سبحانه؛ لأن بعد الضيق سيأتي الفرج؛ وبعد الدنيا ستأتي الآخرة؛ ولأن بعد الشقاء جنة ونعيم وخلود فيها، فهو يصبر، ويطمئن نفسه على ذلك؛ لأنَّ رجوعنا جميعاً إلى الله.
فهناك فرق بين من يعد نفسه للجائزة العظيمة عند الله عز وجل، وبين من يقول: ﴿نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ﴾ [الجاثية: ٢٤].
ولذلك يزهق الكافر من الدنيا، ويقتل نفسه برصاصة يئساً من رحمة الله، قال تعالى: ﴿إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الكَافِرُونَ﴾ [يوسف: ٨٧]، كفروا بالله، ويئسوا من رحمة الله.
ولذلك من لم يعرف الله سبحانه لم يعرف شيئاً، ومن وجد الله وعرف الله وجد كل شيء وعرف كل شيء، ومن لم يعرف الله سبحانه حتى وإن زعم أنه يعلم في الدنيا قال تعالى: ﴿يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ﴾ [الروم: ٧].


الصفحة التالية
Icon