تفسير قوله تعالى: (مثل الجنة التي وعد المتقون)
ثم يذكر لنا الله عز وجل الجنة وجمال الجنة التي وعد بها المتقون المؤمنون، فانظر إلى هذه الجنة العظيمة العالية، قال تعالى: ﴿مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ﴾ [محمد: ١٥] ما مثل هذه الجنة؟ تخيل هذا الشيء، وليس الإنسان حين يتأمل الآية سينظر إلى الجنة حقيقة، إنما هذا تمثيل لتقريب المعنى.
فعندما يقول الله تعالى: ﴿فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ﴾ [الرحمن: ٦٨] فالنخلة في الدنيا إذا أخذت منها بلحة قد يكون طعمها ليس حلواً، فلو ذكر أسماء لا تعرفها فلن تتخيل الجنة، فلا تندفع للعمل لها، لكن لما يذكر لك مثالاً لها، كأن يقال: البلح موجود في مصر، وهناك نوع أحسن منه في بلاد الشام، والبلح الذي في الجنة أعظم فيعطيك المثل.
إذاً تأمل في الشيء الموجود وحاول أن تتخيل ما هو أعظم منه ولن تصل بخيالك إليه.
قال تعالى: ﴿مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ﴾ [محمد: ١٥] أي: وعد الله عز وجل المتقين هذه الجنة العظيمة.
والمتقون الأتقياء، وتقوى الإنسان أن يبتعد عن الحرام.
قال النبي ﷺ لـ أبي هريرة: (اتق المحارم تكن أعبد الناس).
يعني: إذا تريد أن تصير أتقى الناس وأورعهم فابتعد عن الحرام، وإذا ابتعد المؤمن عن الحرام هداه الله عز وجل لفعل كل ما يرضي الله سبحانه وتعالى، فإذا بعدت عن الحرام وفقك للحلال، وللواجب، وللمستحب، ولكل عبادة له.
قال تعالى: ﴿فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى﴾ [محمد: ١٥].
هذه الجنة التي ينادى على أهلها، (يا أهل الجنة! إن لكم أن تنعموا فلا تبأسوا أبداً، وإن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبداً، إن لكم أن تشبوا فلا تهرموا أبداً، وإن لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبداً).
يعيش المؤمن في هذه الجنة العظيمة، فادع ربك سبحانه الجنة، (فإذا سأل العبد ربه الجنة ثلاث مرات قالت الجنة: يا رب أدخله الجنة).
واستجر بالله عز وجل من النار: (اللهم إني أعوذ بك من النار، اللهم إني أعوذ بك من النار، اللهم إني أعوذ بك من النار، فتقول النار: يا رب! ابعده عني).
فضل من الله ورحمة من الله سبحانه للإنسان المؤمن أن الجنة تحبه، والنار تدعو ربها ألا يكون من أهلها، فكل شيء من خلق الله سبحانه وتعالى يحب للمؤمن الخير، فإذا دخل الجنة وجد فيها هذا النعيم العظيم.
قال تعالى: ﴿فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ﴾ [محمد: ١٥].
(آسِنٍ) قراءة الجمهور، و (أسِن) قراءة ابن كثير، و (آسن وأسن) بمعنى: منتن.
فماء الدنيا لو وقف كثيراً أنتن، وماء البحر لو وقف ينتن، وماء النهر كذلك، لكن الله عز وجل يجري الأنهار لئلا يحصل فيها النتن.
والبحار جعل فيها الملح حتى لا يتأذى الإنسان بنتن الماء.
ولكن ماء الجنة ماء عظيم مستحيل أن ينتن، ولا يتغير طعمه، وليس فيه حصى، ولا تراب.
قال تعالى: ﴿وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ﴾ [محمد: ١٥] حين يترك اللبن في البيت فترة يتغير طعمه، أما لبن الجنة فأنهار لا يتغير طعمه.
قال تعالى: ﴿وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ﴾ [محمد: ١٥] خمر الجنة خمر عظيم، لما منعت نفسك من الخمر في الدنيا طاعة لله عز وجل، فاشرب ما شئت في الجنة.
قال سبحانه: ﴿لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلا يُنزِفُونَ﴾ [الواقعة: ١٩] فخمر الدنيا يذهب العقل ويخرف شاربه، ويدوخ وينام ويقوم من النوم تعبان من الخمر التي شربها.
أما في الجنة فلا في صداع، اشرب ما شئت، ولا تذهب العقل، يقال نزف العقل بمعنى.
راح العقل.
فلا ينزفون بسبب هذه الخمر في الجنة، أما خمر الدنيا ففيها الرجس (النجاسة) وذهاب العقل، وتخدع الرجل الحليم وكم صنعت في الناس هذه الخمور فجعلتهم يقتلون، وجعلتهم يزنون، وجعلتهم يفعلون كل ما حرم الله سبحانه وتعالى، وجعلت الرجل الحليم وشكله الكبير في القوم يكون وضيعاً، أتلفت أموال الناس، ولذلك كان بعض أهل الجاهلية يحرمها على نفسه لما رأى من صنيع الخمر به منهم: قيس بن عاصم، فهؤلاء شربوا الخمر مرة فرأوا أنهم يخرفون والناس تضحك عليهم فلما أفاقوا قالوا لهم: عملتم كذا وكذا، فحرموها على أنفسهم.
وهنا الله عز وجل قارن بين خمر الدنيا وخمر الجنة فخمر الجنة له لذة، وخمر الدنيا مرة، واصبر عمرك وهو قليل حتى تصل إلى الجنة فتأخذ من هذا الذي ادخره الله عز وجل لك.
قال تعالى: ﴿وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى﴾ [محمد: ١٥] ليس محتاجاً للنحل، فالنحل يأخذ العسل ثم يخلطه ببطنه بشيء ويخرج العسل، أما عسل الجنة فلا نحل ولا شمع ولا كدورة الدنيا، إنما هو عسل مصفى نقي أنهار خلقه الله الذي يقول للشيء: كن فيكون، فجعله أنهاراً! قال تعالى: ﴿وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ﴾ [محمد: ١٥].
كل ما شئت من كل الثمار التي تتمناها، قال تعالى: ﴿كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ﴾ [البقرة: ٢٥]، فهو متشابه شكلاً، مختلف طعماً، وفي الدنيا ستأكل ثمرة أو ثمرتين ثم تمتلئ بطنك أما في الجنة فكل ما شئت فإذا قلت: بطني امتلأ، خرج رشح من الإنسان رائحته رائحة المسك، وكل مرة أخرى كل، في كل وقت ولا يوجد ليل في الجنة، فتجد المؤمن حين يتفكر في الجنة يقول: لا أفرط في الجنة، ولا أضيعها؛ ففيها نعيم دائم، أما الدنيا فنعيم زائل لا يدوم، ولو كان معك مال كثير فكل الناس ينظر إليك حسداً حتى تبتلى بالمرض، أما الآخرة فهي خير وأبقى، فالمؤمن يعمل لهذه الدار العظيمة.
ثم ذكر الله عز وجل أن هذا الذي أعطيه من نعيم للمؤمن أزيد على ذلك المغفرة، فيغفر الله سبحانه وتعالى الذنوب، وكل هذا الفضل من الله عز وجل، ومغفرة من ربهم الذي خلقهم، يغفر مغفرة تليق به سبحانه وتعالى، فعبر عنها بالربوبية لله عز وجل، وهو الفعال لما يريد سبحانه، لا يتعاظم على الله شيء فيغفر الذنوب جميعاً، من تاب تاب الله عليه.
فهل هؤلاء الذين في الجنة يستوون مع من هو خالد في النار وسقوا ماء حميماً فقطع أمعاءهم؟ هل يستوي أهل الجنة مع أهل النار الذين يخلدون في النار والعياذ بالله فلا يخرجون منها أبداً؟ قال تعالى: ﴿وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ﴾ [محمد: ١٥] طعامهم الزقوم، وشرابهم الحميم، والزقوم طعام مر له شوك يقف في الحلوق، فلا ينزل، ويريدون ماء لإنزال الشوك من الحلوق، فإذا بالله عز وجل يعطيهم حميماً مغلياً شديد الحرارة يشربونه، فيمزق جلودهم، ويشوي وجوههم، ويدخل في أمعائهم فيخترقها! تخيل تقطيع الأمعاء في الدنيا، الإنسان قد يأتي له مرض شديد فتتقطع من شدة الألم أمعاؤه، لكن تخيل لو أن الطعام كانت حموضته كبيرة فأصابه بالقرحة في الأمعاء واخترق هذه الأمعاء وطلع منه جزء يسير! فسيكون الألم لا يطاق، فعندما يقول لك: قطع أمعاءهم قطعها حقيقة، وهم يستحقون ذلك بما صنعوا، نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.