تفسير قوله تعالى: (ومنهم من يستمع إليك حتى إذا خرجوا من عندك)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
أما بعد: قال الله عز وجل في سورة محمد صلى الله عليه وسلم: ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ * وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ * فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ﴾ [محمد: ١٦ - ١٨].
يخبرنا الله عز وجل في هذه الآيات عن صفة من صفات المنافقين، والفرق بينهم وبين المؤمنين أن المنافق: إنسان دخل في الإسلام وهو كاره له، لما رأى غلبة الإسلام وغلبة المسلمين أذعن ودخل في دين الله عز وجل، وأظهر هذا الإسلام، وأبطن الكفر، وعمل للإفساد بين المسلمين.
والمنافقون أشد الناس على المسلمين، وأفسد الناس فيمن استطاعوا أن يفسدوهم من المسلمين، وهم أكثر الناس إدخالاً للفساد على بلاد المسلمين.
والكافر معروف كفره، أما المنافق فبعض الناس يدافع عنه، وله أقرباء من الناس، ولذلك الناس يسكتون عنه؛ إكراماً لأقربائه؛ ولأنه يقول: أنا مسلم، يسكتون عنه، ويتغاضون عنه، أما هو فلا يسكت، بل يشيع الفاحشة بين المؤمنين، ويشيع الكلام الخبيث بين المؤمنين، ويظهر الكلام الذي يوهن في قوة المسلمين، وإذا جاء وقت الجهاد ووقت الحرب ووقت الغزو إذا به يتكلم عن الكفار بأنهم أقوى ما يكونون، وأن المؤمنين ضعفاء، ولا يقدرون على هؤلاء؛ توهيناً لقوة المسلمين.
والمنافقون فضحهم الله عز وجل في سورة المنافقون، وأيضاً في سورة براءة، وهنا في هذه السورة ذكر صفة من صفات هؤلاء، وفي سورة براءة ذكر الله عز وجل كثيراً من صفاتهم.
وهنا ذكر صفة من هذه الصفات فقال: ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ﴾ [محمد: ١٦]، ومن هؤلاء عبد الله بن أبي ابن سلول رئيس المنافقين لعنة الله عليه وعلى أمثاله.
ومن هؤلاء رجل اسمه رفاعة بن التابوت، ورجل آخر اسمه زيد بن الصلت، ورجل رابع اسمه الحارث بن عمرو، وكان هؤلاء وغيرهم من المنافقين يعرفهم النبي صلى الله عليه وسلم، وكان هناك غيرهم لا يعرفهم لكن الله يعرفهم، ثم أخبر نبيه ﷺ عن بعض أسماء هؤلاء الذين يموتون على نفاقهم، فهؤلاء من أوصافهم التي ذكر الله عز وجل في كتابه أن النبي ﷺ يعرفهم في لحن القول، فالمنافق يلحن بقوله فيعرف النبي ﷺ ما في باطن هذا الإنسان بما يظهر على فلتات لسانه.
قال تعالى: ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ﴾ [محمد: ١٦]، هنا استمعوا للنبي ﷺ وهو يخطب وهو يذكر ويقرأ القرآن، فكانوا يسمعون ساكتين، وحين يخرجون من عند النبي ﷺ فكما قال الله: ﴿حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا﴾ [محمد: ١٦] يعني: حالاً، منذ وقت قريب، فالأنف: الشيء القريب.
وفرق بين أن يسأل الإنسان آخر: ما عملت أمس؟ والسنة التي فاتت ماذا كان فيها؟ أما الذي سيسأل عما حصل في الأمس فستقول له: أنت تشك، أو يمكن أنك ناسٍ، والمنافقون يقول أحدهم للآخر: اترك النبي ﷺ ولا تسمع منه شيئاً، فهو يقول كلاماً لا يدخل عقولنا، ولا يحفظ هذا الكلام، فيريدون أن يشككوا المسلمين، كعادة الإنسان الذي يستهين بمن يعلمه، وبمن يدرسه.
قال تعالى: ((مَاذَا قَالَ آنِفًا)) أي: حالاً، يعني: الخطبة التي كان يقولها ماذا كان يتكلم فيها؟ فيحاولون أن يلقوا الشك في قلوب المؤمنين، فيسألون الذين أوتوا العلم: ((مَاذَا قَالَ آنِفًا))، والعادة أن صاحب العلم حوله من يتعلم منه، وحوله من يسمع له، فكان يأتي المنافق إلى مثل ابن مسعود رضي الله عنه وهو من فقهاء الصحابة فيقول له: ماذا كان يقول؟ يعني: الكلام الذي كان يقوله النبي ﷺ كلام ليس مفهوماً، وكأن هؤلاء الناس الكبار ليسوا فاهمين منه شيئاً، ويشككون المؤمنين فيما يقوله النبي صلى الله عليه وسلم، ففضحهم الله عز وجل بهذا.
وللمنافقين صفات أخرى كثيرة ذكرها الله، منها قوله تعالى: ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ﴾ [التوبة: ٥٨]، وقوله: ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا﴾ [التوبة: ٤٩] وغيرها من الصفات.
فمن صفاتهم: التشكيك فيما يقوله النبي صلى الله عليه وسلم، والاستهانة بالنبي صلى الله عليه وسلم، والاستهزاء بكلامه عليه الصلاة والسلام، ودعوى أنه يقول كلاماً لا يفهم.
قال تعالى: ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ﴾ [محمد: ١٦]، إذاً: هم يظهرون أنهم لا يفهمون، والحقيقة أنهم وإن فهموا المعنى فقلوبهم في غفلة، وقلوبهم مختوم عليها، ومطبوع عليها، ولا يدخلها الإيمان لفسادها، ولذا قال: ﴿أُوْلَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ﴾ [محمد: ١٦] أي: ختم الله عليها، وجعل عليها أغشية فلا تفقه ولا تعي ولا تفهم ما يقوله النبي صلى الله عليه وسلم، وفرق بين أن يفهم الإنسان أن معنى الإيمان معنى التصديق، وأن يعقل الإنسان بقلبه ذلك فيستجيب له، فهذا استماع وهذا استماع، وهذا استمع للإيمان وهذا استمع للإيمان، ولكن أحدهما استمع ليشكك، والآخر استمع ليصدق، ففرق بين هذا وبين ذاك، فلذلك ذكر الله المؤمنين فقال: ﴿وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى﴾.
فالمنافق بسبب أنه يريد أن يستهين وأن يستهزء بالدين يطبع الله على قلبه، والمؤمن أقبل على الله، وأقبل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفتح قلبه تواضعاً لدين الله سبحانه؛ ففتح الله قلبه، وزاده إيماناً فوق إيمانه، فالمنافقون قال الله عنهم: ﴿أُوْلَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ﴾ [محمد: ١٦]، فهم متبعون للهوى، وسيهوي بهم في نار جهنم والعياذ بالله! وأما المؤمنون فاتبعوا تقوى الله سبحانه تبارك وتعالى، فآتاهم تقواهم، وآتى كل إنسان من المؤمنين التقوى التي ينتفع بها في الدنيا بأن يسمع ويزداد إيماناً، وينتفع بها في الآخرة بأن يقيه الله عز وجل من النار.