الأقوال في مقدار الجلد في حد شارب الخمر
لقد ثبت التوقيف في الخمر على ثمانين جلدة من فعل عمر رضي الله تعالى عنه، وقد كانوا قد اختلفوا كم جلد النبي ﷺ شارب الخمر، فقيل: جلد أربعين وقيل: ثمانين، وقد ورد (أن النبي ﷺ أتي بشارب الخمر فأمرهم بضربه، فقال: قوموا له، فقاموا له، قال الراوي: فمنا الضارب بسوطه، ومنا الضارب بنعله، ومنا الضارب بثوبه).
فقوله هنا: (قوموا له) خطاب لفضلاء الصحابة ليفعلوا ذلك، والنبي ﷺ كان موجوداً، فلو فعل أحد منهم شيئاً فيه ضرر بالمجلود فالله سبحانه وتعالى سيطلع النبي ﷺ أن فلاناً تعمد أن يفعل كذا.
فلا يعقل أن يترك هذا الأمر بعد النبي ﷺ للناس، فيقال: قوموا له، فيأتي بعض الناس ممن بينه وبينه عداوة فيقوم يضربه بشيء يقتله، فلكي لا يكون مثل ذلك فإن الحد لا يترك لآحاد الناس أن يقيموه، وإنما الحاكم يوكل من يقيم هذا الحد كجلاد يكلف بذلك ويقوم به في مشهد من فضلاء الناس؛ حتى يعرف أن هذا لم يقتله بالحد الذي يقام عليه.
فلذلك أمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه بإقامة هذا الحد، وتتابع الصحابة أنه يقام الحد في شرب الخمر بثمانين جلدة.
يقول ابن العربي المالكي: وهذا ما لم يتتابع الناس في الشر، ولا احلولت لهم المعاصي حتى يتخذوها ضراوة، فيزاد الحد لأجل زيادة الذنب.
والأصل في الحد ما جاء في الشرع في كتاب الله عز وجل، أو في سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وهذه الزيادة خلاف الأصل، إلا أنهم قد استدلوا على هذه الزيادة بما وجاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (من شرب الخمر فاجلدوه، فإن شربها في الثانية فاجلدوه، فإن شربها في الثالثة فاجلدوه، فإن شربها في الرابعة فاقتلوه)، فالإنسان الذي لم يزجر مع تكرار الجلد فقد يصل الأمر به في النهاية أن يعزر بالقتل؛ فلذلك قالوا: إنه إذا احلولت له المعصية فيزداد في الحد، وقد أتي عمر رضي الله تعالى عنه بسكران في رمضان، -ومعلوم أن حد شرب الخمر إما أربعون وإما ثمانون- فقال عمر رضي الله عنه والصحابة: إن الحد ثمانون جلدة.
وكأنهم رأوا أن الذي يردع هذا الإنسان ثمانون، وهذا أقرب إلى فعل النبي صلى الله عليه وسلم.
وأيضاً قاسه عمر رضي الله عنه على أقل الحدود وهو حد القذف؛ لأن الإنسان إذا شرب الخمر أصيب بالهذيان، ومن ثَم يقذف الناس، فلذلك جعلوا حد شرب الخمر كحد القذف، لكن الذي سكر في نهار رمضان، أمر عمر بضربه مائة، فكأن عمر نظر لحرمة اليوم فهو يوم من شهر رمضان، فأمر بعشرين جلدة زيادة تعزيراً، فحد الخمر ثمانون، وعشرون لهتك حرمة الشهر.
قال ابن العربي رحمه الله: فهكذا يجب أن تركب العقوبات على تغليظ الجنايات وهتك الحرمات، وذكر أن رجلاً لعب بصبي فضربه الوالي ثلاثمائة سوط، فلم ينكر ذلك الإمام مالك حين بلغه.
وقوله: لعب بصبي كأنها مقدمات اللواط والعياذ بالله، فاللوطي حده الشرعي القتل سواء بالرجم أو بالضرب بالسيف، أو بحسب ما ذكر العلماء في ذلك، لكن الوالي هنا جلده ثلاثمائة جلدة، فلم يضربه ثمانين جلدة كما في حد القاذف، ولا مائة جلدة كما في حد الزاني غير المحصن، ومع ذلك لم ينكر الإمام مالك رحمة الله عليه، وكأنه رأى في هذا الباب أنه يقام عليه الحد ويعزر بأكثر من ذلك.
وقد صنع عمر في التعزير أكثر من ذلك، فإنه قام شخص بتزوير خاتم عمر رضي الله عنه، وأخذ مالاً من بيت المال بتزويره لختم عمر رضي الله عنه، فأمر عمر بجلده مائة، فجلد مائة، ثم تركه في السجن إلى أن برئ من هذه الجلدات، ثم أخرجه وجلده مائة أخرى، ثم أدخله السجن حتى برئ، ثم أخرجه وجلده مائة ثالثة، فدل ذلك على أن الإنسان يؤدب بالشيء الذي يردعه في باب التعزيرات، وقد يصل أحياناً إلى أن يقتل إذا كان يستمرئ الذنب ويخشى الضرر على الناس منه، كمن يتاجر في الحشيش أو الأفيون، فإنه يوزع على الناس ما يؤذيهم، فقد يصل التعزير في مثله إلى أن يقتل.
وجاء عن النبي ﷺ في حده شارب الخمر من حديث عبد الرحمن بن أزهر أنه قال: (رأيت رسول الله ﷺ يوم حنين وهو يتخلل الناس يسألهم عن منزل خالد بن الوليد، فأتي بسكران، فأمر رسول الله ﷺ من كان عنده فضربوه بما في أيديهم، قال: وحثا رسول الله ﷺ عليه التراب، فلما كان أبو بكر رضي الله عنه أتي بسكران فتوخى الذي كان من ضربهم يومئذ، فضرب أربعين)، يقول الإمام الزهري: ثم أخبرني حميد بن عبد الرحمن بن عوف عن وبرة الكلبي قال: أرسلني خالد بن الوليد إلى عمر، فآتيه وهو في المسجد ومعه عثمان وعلي وعبد الرحمن بن عوف وطلحة والزبير وهم معه متكئون في المسجد، فقلت: إن خالد بن الوليد أرسلني إليك وهو يقول: إن الناس قد انهمكوا في الخمر وتحاقروا العقوبة فيه.
فقال عمر: هم هؤلاء عندك فسلهم، فقال علي رضي الله عنه: نراه إذا سكر هذى، وإذا هذى افترى، وعلى المفتري ثمانون، فقال عمر: أبلغ صاحبك ما قال، قال: فجلد خالد ثمانين وعمر ثمانين، وتتابع الناس على ذلك أن شارب الخمر يجلد ثمانين جلدة.