تفسير قوله تعالى: (وقالوا لولا يأتينا بآية من ربه)
قال الله تبارك وتعالى: ﴿وَقَالُوا لَوْلا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الأُولَى﴾ [طه: ١٣٣]، يقول الشنقيطي رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية الكريمة أظهر الأقوال عندي في معنى هذه الآية الكريمة: أن الكفار اقترحوا على عادتهم في التعنت: آية على النبوة كالعصا واليد من آيات موسى وكناقة صالح، واقتراحهم في ذلك بحرف التحضيض الدال على شدة الحض في طلب ذلك: ((لَوْلا يَأْتِينَا))، أي: هلا يأتينا محمد بآية كناقة صالح وعصا موسى، أي نطلب ذلك منه بحرص وحث.
فأجابهم الله بقوله: ((أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الأُولَى))، وهي هذا القرآن العظيم؛ لأنه آية هي أعظم الآيات وأدلها على الإعجاز! وإنما عبر عن هذا القرآن العظيم بأنه ((بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الأُولَى))؛ لأن القرآن برهان قاطع على صحة جميع الكتب المنزلة من عند الله تعالى، فهو بينة واضحة على صدقها وصحتها.
فالقرآن الكريم يشهد بصدق وصحة الكتب السابقة التي أوحاها الله سبحانه وتعالى إلى أنبيائه.
هذا معنى: ((أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الأُولَى))، وهو القرآن الكريم الذي هو حجة وبرهان قاطع على صحة ما أنزله الله من قبل من الكتب كالتوراة والإنجيل وغير ذلك كما قال تبارك وتعالى: ﴿وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ﴾ [المائدة: ٤٨] وقال تعالى: ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾ [النمل: ٧٦]، وقال تعالى: ﴿قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ [آل عمران: ٩٣] إلى غير ذلك من الآيات.
وهذا المعنى الذي دلت عليه هذه الآية على هذا التفسير الذي هو الأظهر أوضحه جل وعلا في سورة العنكبوت في قوله تعالى: ﴿وَقَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ * أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ [العنكبوت: ٥٠ - ٥١]، فقوله في سورة العنكبوت: ((أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ)) هو معنى قوله تبارك وتعالى في سورة طه: ((أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الأُولَى)) كما أوضحنا، والعلم عند الله تعالى.
ويزيد ذلك إيضاحاً الحديث المتفق عليه: (ما من نبي من الأنبياء إلا أوتي ما آمن البشر على مثله، وإنما كان الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إلي، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة)، معنى الحديث: أنه ما من نبي إلا أوتي من المعجزات ما آمن البشر على مثله، وهي معجزات مؤقتة مثل عصا موسى، هل هي باقية حتى الآن هذه العصا يحدث بها ما كان يحصل لموسى عليه السلام؟ ومثل معجزات عيسى عليه السلام أو ناقة صالح أو غير ذلك من هذه الآيات التي كان فيها خرق للعادة مقترنة بدعوى النبوة لتأييد الأنبياء، فهي معجزات للأنبياء لكنها معجزات موقوتة، وهي خارقة وقاهرة لمن يرونها، ثم بعد ذلك تبقى خبراً كما نخبر نحن عنها الآن، وكما أخبر بها من أتوا بعد الأنبياء عليهم السلام.
أما القرآن العظيم فهو معجزة باقية حية متجددة لا تنقضي أبداً؛ لأنه معجزة بكل معنى الكلمة، وبكل مظاهر الإعجاز، وكما قلنا مراراً: نأمل أن تأتي فرصة نناقش فيها قضية إعجاز القرآن وتعطى حقها الذي تستحقه، لأن هذا باب من العلم في غاية الأهمية خاصة في مثل هذا الزمان.
بعض الخبثاء من أعداء الله في موقع على الإنترنت ادعى أنه يقبل التحدي، وأنه يأتي بضد القرآن وهذا الكلام لا يصدر إلا عن إنسان جبان، ولو كان على مستوى التحدي فلماذا لم يظهر نفسه واختبأ كالفئران والجرذان؟ ولا أحد يستطيع أن يصل إليه، وعلى الأقل يفتح مكاناً في نفس الموقع للتعليقات، لكنه لم يترك أي وسيلة يمكن لإنسان أن يرد عليه بها في نفس الموقع؛ إذا كنت تتحدى! هل تختبئ في الخندق؟! الإنسان عندما يتحدى يقف ويثبت أمام التحدي.
فهل يعجز أحد عن السباب والشتائم؟ كل إنسان قادر على أن يسب وأن يشتم وينتقي أقبح الألفاظ.
فعندما يأتي مثلاً بسورة: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ﴾ [الكافرون: ١ - ٣] هل يعجز أحد أن يقول: أنا سأقبل التحدي، ويأخذ كلمة (الكافرون) ويقول: يا أيها المسلمون! هل هكذا يكون التحدي؟! كثير منا لا يعرف ما معنى إعجاز القرآن ومن سبقوه كانوا أكثر منه علماً وواقعية، فهذا قام بوضع البدائل ويقول: أنا قابل للتحدي، وسوف أعمل نفس القرآن الكريم، ويظل يكتب: يا محمد! لما أضللت عبادي، وأدخلتهم النار، وجعلتهم من الكافرين؟ إلى آخره!! فمثل هذه الخزعبلات وهذا الضلال لو كان كاتبها عنده شجاعة أدبية لأظهر نفسه، وبدأ يناقش العلماء الذين يتحداهم، لكنه لما خاف أن يظهر عجزه للناظرين اختبأ! هذا الأمر الأول.
الأمر الثاني: نحن من غير قصد أحياناً نتعرض لمثل هذه المحاولات ونتعامل معها بطريقة تخدم سياسة الأعداء، فمثل هذه القضية التي انشغل الناس بها ونشروها في الجرائد لو كان عندهم نوع من الفقه لامتنعوا من نشرها أصلاً؛ لأن كثيراً من الناس لا يقصدون بذلك إلا أن يلقوا إلينا مثل هذه الشبهات ونحن الذين ننشرها على أوسع نطاق! وكمثال عابر بعض الأدوية التي يتحدث عنها الناس نجد طريقة الدعاية التي حصلت لها ما كانت تحلم بها شركات الأدوية ولو أنفقت على ذلك البلايين، لا يمكن أنها كانت تصل للمستوى الإعلامي الذي حصل نتيجة تناولها بشكل غير مدروس، فيحدث أن كل الناس تتكلم عنها: ولماذا لا نرد؟ لازم نرد، لكن أين سترد؟ على موقع آخر؛ لأن الموقع الذي كتب فيه لا يسمح بالرد، أو لا يوجد به مكان للرد عليه.
فالمصيبة أن بعض من ليس عندهم فقه يرد في موقع آخر، ويكون بذلك قد ساهم في إطلاع من لم يطلع على الأمر في الأساس، فالأولى أن يترك الموضوع ولا يثار، وإلا كان كالتراب الي بتحريكه ينتشر في الجو فعدم الرد على مثل هذه الأشياء هذا أفضل؛ لأن الشخص المجهول قد جبن عن أن يواجه، ولم يترك فرصة لأحد ليرد عليه، ثم لا يعجز أحد كما قلنا عن الشتائم؛ فلنعامل هذا كما في قوله تبارك وتعالى: ﴿وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا﴾ [المزمل: ١٠]؛ لأنه لا يوجد أحد يعجز عن الشتائم، فما علينا إلا الصبر ﴿وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا﴾ [آل عمران: ١٨٦]، فالمطلوب الصبر على هذا الأذى كما أمرنا الله تبارك وتعالى.
فإذاً قوله عليه الصلاة والسلام: (ما من نبي من الأنبياء إلا أوتي ما آمن البشر على مثله، وإنما كان الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إلي)، هذه معجزة النبي ﷺ قائمة باقية حجة على البشرية إلى نهاية الزمان، وهذا يتوافق مع وصفه عليه الصلاة والسلام بأنه خاتم الأنبياء، لأنه إذا كان خاتم الأنبياء فلا يوجد نبي بعده، ومقتضى ذلك أن تبقى معجزته أيضاً قائمة ظاهرة باهرة قاهرة لكل من عاندها، وهي معجزة القرآن الكريم؛ ففي ذلك يقول عليه الصلاة والسلام: (فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة)، أرجو أن تكون أمتي أكثر أمم الأنبياء جميعاً، لماذا؟ لأن المعجزة باقية ودائمة ومتجددة إلى قيام الساعة، وليست كمعجزات الأنبياء السابقين الذين حصل لهم خرق العادة ثم توقفت وصارت بعد ذلك خبراً، أما القرآن فتكفل الله بحفظه لكي يبقى حجة على البشر، ودلالة واضحة قاطعة على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.