تفسير قوله تعالى: (يا عباد لا خوف عليكم أنتم وأزواجكم تحبرون)
قال تعالى: ﴿يَا عِبَادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ﴾ [الزخرف: ٦٨ - ٦٩].
((يَا عِبَادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ)) يعني: يؤمنهم من العذاب، ((وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ)) أي: على فوات لذات الدنيا، لكونهم على حال ألذ منها وأحسن حالاً وأجمل.
((الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا)) أي: صدقوا بكتاب الله ورسله، وعملوا بما جاءتهم به رسلهم، ((وَكَانُوا مُسْلِمِينَ)) أي: أهل خضوع لله بقلوبهم وقبول منهم لما جاءتهم به رسلهم عن ربهم على دين إبراهيم عليه السلام، حنفاء لا يهود ولا نصارى ولا أهل أوثان ﴿ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ﴾ [الزخرف: ٧٠].
قال العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى في تفسير قوله تعالى: ((يَا عِبَادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ)): ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة بعض صفات الذين ينتفي عنهم الخوف والحزن يوم القيامة، فذكر منها هنا الإيمان بآياته والإسلام، وذكر بعضاً منها في غير هذا الموضع، فمن ذلك -يعني: مما ينفي عن الإنسان الخوف والحزن يوم القيامة-: الإيمان والتقوى، قال سبحانه وتعالى في سورة يونس: ﴿أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ﴾ [يونس: ٦٢ - ٦٣] ومن ذلك أيضاً: الاستقامة، وقولهم: (ربنا الله) ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ﴾ [فصلت: ٣٠]، وقال في الأحقاف: ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ [الأحقاف: ١٣].
والخوف في لغة العرب: الغم من أمر مستقبل.
والحزن: الغم من أمر ماض.
وربما استعمل كل منهما في موضع الآخر.
وإطلاق الخوف على العلم أسلوب عربي معروف.
قال بعض العلماء: ومنه قوله تعالى: ﴿إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ﴾ [البقرة: ٢٢٩]، يعني: إلا أن يعلما ألا يقيما حدود الله، ومنه أيضاً قوله تعالى: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى﴾ [النساء: ٣] يعني: إذا علمتم أنكم لن تعدلوا في اليتامى.
ومنه قول أبي محجن الثقفي: إذا مت فادفني إلى جنب كرمة تروي عظامي في الممات عروقها يعني: من شدة ما يحب شرب الخمر يتمنى أن يدفنوه بعد موته إلى جنب شجرة عنب، حتى تروي عظامه بالكرم، فالعروق والجذور تتغلغل في الأرض وتصل للعظام.
ولا تدفنني في الفلاة فإنني أخاف إذا ما مت ألا أذوقها في الفلاة: أي في الصحراء الخالية، بل ادفني في بستان فيه شجرة عنب.
(فإني أخاف): أخاف هنا معناها: أعلم، أنني إذا مت لن أستطيع أن أذوقها؛ لأنه لا يشك في أنه لا يشربها بعد موته.
قوله تعالى: ((الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ)) ظاهره المغايرة بين الإيمان والإسلام، وقد دلت بعض الآيات على اتحادهما كقوله تعالى: ﴿فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ [الذاريات: ٣٥ - ٣٦]، ولا منافاة في ذلك، فإن الإيمان يطلق تارة على جميع ما يطلق عليه الإسلام من الاعتقاد والعمل، كما قال عليه الصلاة والسلام: (الإيمان بضع وسبعون شعبة، أعلاها لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق)، وثبت في الصحيح حديث وفد عبد القيس، وفيه أنه جعل من الإيمان الأعمال الظاهرة: أن تشهد ألا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وأن تحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً.
وقال تبارك وتعالى: ((ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ)) أي: تسرون سرواً يظهر حبوره أي أثره على جلودكم، كما قال تعالى: ﴿تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ﴾ [المطففين: ٢٤].
قال العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية الكريمة: ((ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ)).
قوله تعالى: ((أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ)) فيه لعلماء التفسير وجهان: أحدهما: أن المراد بأزواجهم نظراؤهم وأشباههم في الطاعة، ومن هم على شاكلتهم في الإيمان وتقوى الله، وهذا القول اقتصر عليه ابن كثير القول الثاني: أن المراد بأزواجهم: نساؤهم في الجنة، قالوا: لأن هذا الأخير أبلغ في التنعم والتلذذ من الأول؛ ولذا يكثر في القرآن ذكر إكرام أهل الجنة بكونهم مع نسائهم دون الامتنان عليهم بكونهم مع نظرائهم وأشباههم في الطاعة، قال تعالى: ﴿إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ * هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ﴾ [يس: ٥٥ - ٥٦]، وقال تعالى: ﴿وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ﴾ [الدخان: ٥٤] وقال: ﴿وَحُورٌ عِينٌ * كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ﴾ [الواقعة: ٢٢ - ٢٣]، وقال: ﴿فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ﴾ [الرحمن: ٧٠]، إلى قوله: ﴿حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ﴾ [الرحمن: ٧٢]، وقال: ﴿وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ﴾ [ص: ٥٢].
ومفرد الأزواج زوج بلا هاء -يعني هذا هو الأصل في اللغة- والزوجة بالهاء لغة وليست لحناً، خلافاً لمن زعم أن الزوجة من لحن الفقهاء، وأن ذلك لا أصل له في اللغة، ومنها قول الفرزدق: وإن الذي يسعى ليفسد زوجتي كساع إلى أسد الشرى يستبيلها وقول الحماسي: فبكى بناتي شجوهن وزوجتي والظاعنون إلي ثم تصدعوا وفي صحيح مسلم من حديث أنس أن النبي ﷺ قال في صفية: (إنها زوجتي).
وقوله: ((تحبرون)) معناه: أنهم يكرمون بأعظم أنواع الإكرام وأتمها.


الصفحة التالية
Icon