تفسير قوله تعالى: (فأتوا بآبائنا إن كنتم صادقين إنهم كانوا مجرمين)
قال الله تعالى: ﴿فَأْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾ [الدخان: ٣٦] أي: إن كنتم صادقين في أننا نبعث بعد بلائنا من قبورنا (فأتوا بآبائنا) أي: أحضروا لنا آباءنا.
قال ابن كثير: وهذه حجة باطلة وشبهة فاسدة، فإن المعاد إنما هو يوم القيامة لا في دار الدنيا، بل بعد انقضائها وذهابها وفراغها يعيد الله العالمين خلقاً جديداً، ويجعل الظالمين لنار جهنم وقوداً.
ثم أنذرهم تعالى بأسه الذي لا يرد كما حل بأشباههم من المشركين فقال سبحانه: ﴿أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ﴾ [الدخان: ٣٧].
قوله: (أهم خير) أي: في القوة والمنعة.
قوله: (أم قوم تبع والذين من قبلهم أهلكناهم إنهم كانوا مجرمين) أي: أهلكناهم بجرمهم وفحشهم وفسادهم، وهم ما هم من حيث القوة والرخاء وكذا وكذا، فما بال قريش لا تخاف أن يصيبها ما أصابهم؟ وقوم تبع هم حمير وأهل سبأ أهلكهم الله عز وجل، وفرقهم في البلاد شذر مذر، كما تقدم في سورة سبأ.
وقد ذكر تبع في القرآن مرتين هنا وفي سورة (ق)، وتبع من الصالحين الذين ورد ذكرهم في القرآن واختلف في إثبات نبوتهم، كـ ذي القرنين وكالخضر ونحو ذلك، فالأفضل في أمر ذي القرنين وتبع أن يتوقف الإنسان في إثبات النبوة لهما؛ لقول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فيما رواه الحاكم والبيهقي وصححه، وهو صحيح: (ما أدري أتبع نبي أم لا؟ وما أدري أذو القرنين نبي أم لا؟)، فإذا كان النبي عليه الصلاة والسلام يتوقف فنحن قطعاً لا بد أن نتوقف، وإن كان البعض من السلف خاضوا وناقشوا هذه القضية، لكن إن كان رسول الله ﷺ الذي هو مصدر العلم بالنسبة لنا لا يدري فنحن أحرى ألا ندري.
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى: كانوا عرباً من قحطان كما أن هؤلاء عرب من عدنان، وقد كانت حمير كلما ملك فيهم رجل سموه تبعاً، كما يقال: كسرى لمن ملك الفرس، وقيصر لمن ملك الروم، وفرعون لمن ملك مصر كافراً -يعني: لا يوصف حاكم مصر بأنه فرعون إلا إذا كان كافراً- والنجاشي لمن ملك الحبشة، وغير ذلك من أعلام الأجناس، ولكن اتفق أن بعض تبابعتهم خرج من اليمن وسار في البلاد حتى وصل إلى سمرقند، واشتد ملكه وعظم سلطانه وجيشه، واتسعت مملكته وبلاده، وكثرت رعاياه، وهو الذي مصّر الحيرة، فاتفق أنه مر بالمدينة النبوية وذلك في أيام الجاهلية، فأراد قتال أهلها فمانعوه وقاتلوه بالنهار وجعلوا يقرونه بالليل -يعني: كانوا يقرونه ويبذلون له القرى الذي يقدم للضيف من الطعام والإكرام بالليل-؛ لأنهم كانوا يرون هذا واجباً عليهم؛ لأنهم عرب كرام -فاستحيا منهم وكف عنهم، واستصحب معه حبرين من أحبار يهود كانا قد نصحاه وأخبراه أن لا سبيل له على هذه البلدة؛ فإنها مهاجر نبي يكون في آخر الزمان، فرجع عنها وأخذهما- أخذ الحبرين اليهوديين- معه إلى بلاد اليمن، فلما اجتاز بمكة أراد هدم الكعبة فنهياه عن ذلك أيضاً وأخبراه بعظمة هذا البيت، وأنه من بناء إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام، وأنه سيكون له شأن عظيم على يدي ذلك النبي المبعوث في آخر الزمان، فعظمها وطاف بها وكساها الملاء والوصائل والحبر، ثم كر راجعاً إلى اليمن، ودعا أهلها إلى التهود معه، وكان إذ ذاك دين موسى عليه الصلاة والسلام فيه من يكون على الهداية قبل بعثة المسيح عليه الصلاة والسلام، فتهود معه عامة أهل اليمن.
وقد ذكر القصة بطولها الإمام محمد بن إسحاق في كتابه ((السيرة)) وقد ترجمه الحافظ ابن عساكر في تاريخه ترجمة حافلة أورد فيها أشياء كثيرة مما ذكرنا ومما لم نذكر، وذكر ابن عساكر أنه ملك دمشق، وساق ما روي في النهي عن لعنه.
قال ابن كثير: وكأنه -والله أعلم- كان كافراً ثم أسلم، وتابع دين الكليم عليه السلام على يدي من كان من أحبار اليهود في ذلك الزمان على الحق، قبل بعثة المسيح عليه السلام، وحج البيت في زمن الجرهميين، وكساه الملاء والوصائل من الحرير والحبر، ونحر عنده ستة آلاف بدنة، وعظمه وأكرمه، ثم عاد إلى اليمن، وقد ساق قصته بطولها الحافظ ابن عساكر من طرق متعددة مطولة مبسوطة عن أبي بن كعب وعبد الله بن سلام وعبد الله بن عباس رضي الله عنهم وكعب الأحبار وإليه المرجع في ذلك كله، وعبد الله بن سلام هو أثبت وأكبر وأعلم، وكذا روى قصته وهب بن منبه ومحمد بن إسحاق في السيرة كما هو مشهور فيها.
وقد اختلط على الحافظ ابن عساكر في بعض السياقات ترجمة تبع هذا بترجمة آخر متأخر عنه بدهر طويل، فإن تبعاً هذا المشار إليه في القرآن أسلم قومه على يديه، ثم لما توفي عادوا بعده إلى عبادة النيران والأصنام، فعاقبهم الله تعالى كما ذكره في سورة سبأ.
ثم قال: وتبع هذا هو تبع الأوسط واسمه أسعد أبو كريب، ولم يكن في حمير أطول مدة منه، وتوفي قبل مبعث النبي ﷺ بنحو من سبعمائة سنة.
وذكروا أنه لما ذكر له الحبران من يهود المدينة أن هذه البلدة مهاجر نبي في آخر الزمان اسمه أحمد ﷺ قال في ذلك شعراً واستودعه عند أهل المدينة، فكانوا يتوارثونه ويروونه خلفاً عن سلف، وكان ممن يحفظ هذا الشعر أبو أيوب خالد بن زيد الأنصاري رضي الله عنه الذي نزل رسول الله ﷺ في داره، وهو: شهدت على أحمد أنه رسول من الله باري النسم فلو مد عمري إلى عمره لكنت وزيراً له وابن عم وجاهدت بالسيف أعداءه وفرجت عن صدره كل غم ثم ساق ابن كثير آثاراً في النهي عن سبه.
وبالجملة فإن قصته المذكورة والمروية في شأنه، وإن لم يكن سنده على شرط الصحيح إلا أن ذلك مما يجوز التوسع فيه؛ لأنه عبارة عن خبر محض لا يتضمن حكماً شرعياً، لكن يؤكد حقيقة أخرى وهي أن تبعاً كان له خبر متواتر عند قريش يتناقلونه جيلاً بعد جيل، وكان خبراً عظيماً بدليل أن الله سبحانه وتعالى قال مخاطباً قريشاً: (أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ) يعني: قوم تبع الذين تعرفونهم وتسمرون بأخبارهم، وتتناقلون أخبارهم جيلاً بعد جيل، فيفهم من قوله: (أهم خير أم قوم تبع) أن المخاطبين وهم قريش يعرفون من هو تبع، بل يعرفون خبر تبع، وأنه أقوى منهم وأملك منهم في كل شيء، فإذا كان قوم تبع مع قوتهم وشدتهم لما كفروا أهلكهم الله، أفلا يهلك قريشاً إذا سارت على درب الكفر؟! لا شك أن قريشاً كانت تعلم من فخامة نبئه المروي لها بالتواتر ما فيه أكبر موعظة لها، ولذا طوى نبأه إحالة على ما تعرفه من أمره، وما تسمر به في شأنه، وما القصد إلا العظة والاعتبار، لا جعل ذلك خبراً من الأخبار وسمراً من الأسمار كما هو السر في أمثال نبئه، وبالله التوفيق.