الوجه الثاني في معنى الدخان المذكور في قوله: (فارتقب)
الوجه الثاني في الآية: أن هذا الدخان المذكور في قوله: ﴿فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ﴾ [الدخان: ١٠] إحدى علامات القيامة، ولم يأت بعد وهو آت، وهذا قول حذيفة رضي الله تعالى عنه، ويروى عن علي وابن عباس وجمع من التابعين.
قال الرازي: واحتج القائلون بهذا القول بوجوه: الوجه الأول: أن قوله: ((فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ)) يقتضي وجود دخان تأتي به السماء، فقوله: (يوم تأتي السماء بدخان) نص واضح وصريح على أن السماء نفسها سوف تأتي بدخان، ولا شك أن الأصل حمل الآية على الحقيقة، ولا يعدل عن الحقيقة إلى المجاز إلا بقرينة تصرفه عنها.
إذاًَ: لفظ هذه الآية: ((يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ)) يقتضي وجود دخان تأتي به السماء، وما ذكرتموه من الظلمة الحاصلة للعين بسبب شدة الجوع فذاك ليس بدخان أتت به السماء، فهذا الشيء الذي يراه الجائع من شدة الجوع من ظلمة أو غبراء لا يطلق عليه دخان، ولا ينطبق عليه قوله تعالى: (يوم تأتي السماء بدخان مبين).
(يَغْشَى النَّاسَ) فكان حمل لفظ الآية على هذا الوجه عدولاً عن الظاهر لا لدليل منفصل يرجح هذا التأويل، وهذا لا يجوز.
الوجه الثاني: أنه وصف ذلك الدخان بكونه مبيناً يقول عز وجل: (يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ) والحالة التي ذكرتموها ليست كذلك؛ لأنها حالة عارضة تعرض لبعض الناس في أدمغتهم، ومثل هذا لا يوصف بكونه دخاناً مبيناً.
الوجه الثالث: أنه وصف ذلك الدخان بأنه يغشى الناس، قال تعالى: (يَغْشَى النَّاسَ) وهذا إنما يصدق إذا وصل ذلك الدخان إليهم واتصل بهم، والحالة التي ذكرتموها لا تغشى الناس إلا على سبيل المجاز، وقد ذكرنا أن العدول من الحقيقة إلى المجاز لا يجوز إلا لدليل منفصل.
الوجه الرابع: ما روي عن النبي ﷺ من عده الدخان من الآيات المنتظرة، فقد ثبت في الأحاديث أن الدخان من الآيات المنتظرة ومن أشراط الساعة.
والقول الأول لا شك أنه يقتضي صرف اللفظ عن حقيقته إلى المجاز، وذلك لا يجوز إلا عند قيام دليل يدل على أن حمله على حقيقته ممتنع، والقوم لم يذكروا ذلك الدليل، فكان المصير إلى ما ذكروه مشكلاً جداً.
فإن قالوا: الدليل على أن المراد ما ذكرناه، أنه تعالى قص عنهم أنهم يقولون: رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ وهذا إذا حملناه على القحط الذي وقع بمكة استقام الأمر؛ فإنه نقل أن القحط لما اشتد بمكة مشى أبو سفيان إلى النبي ﷺ وناشده بالله وبالرحم، ووعده أنه إن دعا لهم وأزال الله عنهم تلك البلية أن يؤمنوا به، فلما أزال الله تعالى ذلك عنهم رجعوا إلى شركهم؛ ولأننا إذا حملناه على أن المراد منه ظهور علامة من علامات القيامة لم يصح ذلك؛ لأن عند ظهور علامات القيامة لا يمكنهم أن يقولوا: (ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون)، ولم يصح أيضاً أن يقال لهم: إِنَّا كَاشِفُوا الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ.
نقول: هذا كلام أيضاً فيه نظر، ويجاب عنه: ما المستغرب أنها تكون آية من آيات القيامة ومن أشراط الساعة، وأنهم إذا نزلت بهم يقولون: (ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون) فيقول الله لهم بعدما يصيبهم هذا العذاب أو هذا الدخان: ﴿إِنَّا كَاشِفُوا الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ﴾ [الدخان: ١٥] أي: رغم كشفنا عنكم هذا العذاب، فهل هذا فيه أي إشكال؟! ليس فيه أي إشكال، إلا في حالة واحدة وهي لو كانت هذه العلامة مثل: علامة طلوع الشمس من مغربها حيث يغلق باب التوبة ولا يستجاب لهم في مثل ذلك، لكن لم يأت دليل على أن آية الدخان مثل هذه العلامة، فلا إشكال في كون العذاب يقع عليهم كما أخبر الله ويدعون الله قائلين: (ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون) ويقول الله لهم: (إنا كاشفوا العذاب قليلاً إنكم عائدون).
ثم يقول: لم لا يجوز أن يكون ظهور هذه العلامة جارياً مجرى ظهور سائر علامات القيامة، في أنه لا يوجب انقطاع التكليف، فإن عامة علامات القيامة لا توجب انقطاع التكليف، فخروج المهدي مثلاً لا يوجب انقطاع التكليف على النفس، ونزول المسيح عليه الصلاة والسلام لا يوجب انقطاع التكليف، وغير ذلك من أشراط الساعة التي لا توجب انقطاع التكليف، بل الناس يخافون جداً فيتضرعون، فإذا زالت تلك الواقعة عادوا إلى الكفر والفسق، وإذا كان هذا محتملاً فقد سقط ما قالوه، والله تعالى أعلم.
وقد رجح الإمام ابن كثير الوجه الثاني لما صح عن ابن عباس رضي الله عنهما ترجمان القرآن، ومن وافقه من الصحابة والتابعين، مع الأحاديث المرفوعة الصحاح والحسان وغيرها التي أوردوها مما فيه مقنع ودلالة ظاهرة على أن الدخان من الآيات المنتظرة.
فـ ابن عباس يخالف قول ابن مسعود رضي الله تعالى عنه في مجموعة أخرى من الصحابة والتابعين.
إذاً: قول ابن عباس لا شك أنه ظاهر القرآن، وهو أن قوله تعالى: ﴿فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ﴾ من علامات الساعة، أي: دخان بين واضح يراه كل أحد، أما على تفسير ابن مسعود رضي الله تعالى عنه فليس بدخان بيّن حقيقي وإنما هو خيال رأوه في أعينهم من شدة الجوع والجهد، لكن قوله تعالى: ﴿يَغْشَى النَّاسَ﴾ يعني: يتغشاهم ويعمهم، ولو كان أمراً خيالياً يخص أهل مكة المشركين لما قيل فيه: (يغشى الناس) أي: عامة الناس، أما ما حصل لأهل مكة فكان في الكافرين.
قوله: (هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ) أي: يقال لهم تقريعاً وتوبيخاً: (هذا عذاب أليم)، كقوله عز وجل: ﴿يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا * هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ﴾ [الطور: ١٣ - ١٤] أي: يقال لهم توبيخاً وتقريعاً: (هذه النار التي كنتم بها تكذبون)، أو يقول بعضهم لبعض: (هذه النار التي كنتم بها تكذبون).
وقوله سبحانه وتعالى: ﴿رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ﴾ [الدخان: ١٢] أي يقول الكافرون ذلك إذا عاينوا عذاب الله وعقابه سائلين رفعه وكشفه عنهم، كقوله جلت عظمته: ﴿وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الأنعام: ٢٧]، وكذا أيضاً قوله تعالى: ﴿وَأَنذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ﴾ [إبراهيم: ٤٤]، وهكذا هنا حين قالوا: ﴿رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ﴾ [الدخان: ١٢] قال لهم الله سبحانه وتعالى: ﴿أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ﴾ [الدخان: ١٣] أي: كيف لهم في التذكر وقد أرسلنا إليهم رسولاً بين الرسالة والنذارة، ومع هذا: ﴿ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ﴾ [الدخان: ١٤] أي: ومع هذا تولوا عنه وما وافقوه، بل كذبوه وقالوا: معلم مجنون، كقوله جلت عظمته: ﴿يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى﴾ [الفجر: ٢٣]، وكقوله: ﴿وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ﴾ [سبأ: ٥١] إلى آخر سورة سبأ.
ثم قال تعالى: ﴿إِنَّا كَاشِفُوا الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ﴾ [الدخان: ١٥] هنا معنيان: أحدهما: أنه تعالى يقول: ولو كشفنا عنكم العذاب ورجعناكم إلى الدار الدنيا لعدتم إلى ما كنتم فيه من الكفر والتكذيب، كقوله: ﴿وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾ [المؤمنون: ٧٥]، وكقوله جلت عظمته: ﴿وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴾ [الأنعام: ٢٨].
المعنى الثاني: أن يكون المراد بقوله: (إنا كاشفوا العذاب قليلاً) أي: إنا مؤخرو العذاب عنكم قليلاً بعد انعقاد أسبابه ووصوله إليكم، وأنتم مستمرون فيما أنتم فيه من الطغيان والضلال، ولا يلزم من كشف العذاب عنهم أن يكون العذاب قد نزل بهم بالفعل، وإنما يكون العذاب قد استحقوه وانعقدت أسبابه وكاد يصيبهم ثم كشفه الله عنهم وإن لم ينزل بهم، وذلك مثل قوله تعالى: ﴿فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ﴾ [يونس: ٩٨]، فقوم يونس لم ينزل بهم العذاب ثم كشفه الله عنهم، وإنما كانوا قد استحقوه وانعقدت أسبابه وكاد يصيبهم؛ لأن الله سبحانه وتعالى استثناهم من سنته، وإلا فأي أمة استحقت العذاب فلا بد أن يصيبها العذاب.
إذاً: قوم يونس لما آمنوا حينما استحقوا العذاب عوملوا معاملة استثنائية، (كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ)، فلم يكن العذاب قد اتصل بهم، وهذا هو الشاهد على أن قوله: ((إِنَّا كَاشِفُوا الْعَذَابِ)) لا يستلزم أن يكون العذاب قد باشرهم واتصل بهم، وإنما قد يكون المعنى: أن العذاب قد انعقدت أسبابه بعد أن استحقوه.
يقول القاسمي رحمه الله: ولا يلزم أيضاً أن يكونوا قد أقلعوا عن كفرهم ثم عادوا إليه، قال الله تعالى إخباراً عن شعيب عليه السلام أنه قال لقومه حين قالوا: {لَنُخْرِجَنَّكَ ي


الصفحة التالية
Icon