تفسير قوله تعالى: (ثم جعلناك على شريعة من الأمر)
قال سبحانه وتعالى إشارة إلى هذا التحذير الذي تضمنته هذه الآية، قال بعدها مباشرة: ﴿ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ﴾ [الجاثية: ١٨].
قوله هنا: (ثم جعلناك على شريعة من الأمر) الشريعة لغة: الطريق إلى الماء، وضربت مثلاً للطريق إلى الحق لما فيها من عذوبة المورد، وسلامة المصدر وحسنه.
قال القاسمي هنا: (ثم جعلناك على شريعة من الأمر) أي: على طريقة وسنة ومنهاج من أمر الدين الذي أمرنا به.
تلك الشريعة الثابتة بالدلائل والحجج.
(ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون) يعني: المشركين، وما هم عليه من الأهواء التي لا حجة عليها، وتكرر هذا في القرآن الكريم وصف المشركين بأنهم لا يعلمون كما في قوله: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ﴾ [البقرة: ١١٨]، ﴿كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ﴾ [البقرة: ١١٣]، وفي سورة الروم وصفهم بأنهم لا يعلمون، وأثبت لهم علم كالعدم، ﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ * يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ﴾ [الروم: ٦ - ٧]، فأبدل من (لا يعلمون) (يعلمون)، إشارة إلى أنهم لا يعلمون في الحقيقة، والعلم الذي يعلمونه لا قيمة له؛ لأنه منحصر في ظاهر من الحياة الدنيا كما هو حال المشركين في هذا الزمان.
فاستغراق الإنسان في علم الدنيا وتفاصيل أحوال الدنيا مع الغفلة عن الآخرة مما يدرجه في هذا الذم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله يبغض كل جعظري جواظ صخاب في الأسواق، جيفة بالليل حمار بالنهار، عالم بأمر الدنيا جاهل بأمر الآخرة).
قال القرطبي رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية الكريمة: (ثم جعلناك على شريعة من الأمر): فالشريعة في اللغة المذهب والملة، ويقال لمشرعة الماء، التي هي المورد والشاربة، والطريق الذي يؤدي إلى الماء، ومنه الشارع؛ لأنه طريق إلى المقصد، فالشريعة ما شرع الله لعباده من الدين، والجمع: الشرائع.
وقوله: (من الأمر) قال ابن العربي: والأمر يرد في اللغة بمعنيين: الأول: يأتي بمعنى الشأن، كقوله تعالى: ﴿فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ﴾ [هود: ٩٧]، يعني: شأن فرعون.
الثاني: أحد أقسام الكلام الذي يقابله النهي، فالأمر ضد النهي، وكلاهما يصح أن يكون مراداً هاهنا في قوله: (ثم جعلناك على شريعة من الأمر)، أي: ثم جعلناك على طريقة من الدين وهي ملة الإسلام، كما قال تعالى: ﴿ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [النحل: ١٢٣]، ولا خلاف أن الله تعالى لم يغاير بين الشرائع في التوحيد والمكارم والمصالح، وإنما خالف بينها في الفروع حسب ما علمه سبحانه وتعالى.
وقال القاضي أبو بكر بن العربي رحمه الله تعالى: ظن بعض من يتكلم في العلم: أن هذه الآية دليل على أن شرع من قبلنا ليس بشرع لنا؛ لأن الله تعالى أفرد النبي ﷺ وأمته في هذه الآية بشريعة، ولا يمكن أن النبي ﷺ وأمته منفردان بشريعة، وإنما الخلاف فيما أخبر النبي ﷺ عنه من شرع من قبلنا في معرض المدح والثناء، فهل يلزم اتباعه أم لا؟ وهذه إشارة وجيزة إلى أن هذه الآية لا يصلح أن يستدل بها على أن شرع من قبلنا ليس شرعاً لنا، خاصة ما أتى منه في معرض المدح والثناء.
وشرع من قبلنا أحد الأدلة الشرعية المختلف في حجيتها، والأدلة المجمع على حجيتها القرآن، والسنة، والإجماع، والقياس، وما عدا ذلك فمختلف فيه مثل المصلحة المرسلة أو الاجتهاد أو قول صحابي أو العرف أو شرع من قبلنا، فهذه أدلة مختلف في حجيتها، لكن على أي الأحوال فشرع من قبلنا شرع لنا إذا وافق شرعنا، وليس المجال مجال تحقيق الكلام في هذه القضية، لكن هذه مجرد إشارة.
(ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون)، من المشركين وما هم عليه من الأهواء والضلالات.
وفي الآية إشارة إلى أن الوحي يقابله الهوى، ولذلك قال تبارك وتعالى هنا: (ثم جعلناك على شريعة من الأمر)، أي: الوحي، (فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعملون)، ولهذا نظائر كثيرة في القرآن الكريم، كما في قوله تعالى: ((فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ))، يعني: للوحي ولشريعتك، ((فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ))، وقال تبارك وتعالى: ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾ [النجم: ٣ - ٤].