كلام الشنقيطي على صدر سورة الجاثية
وقد بين العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى في تفسيره من صدر هذه السورة: أن الله سبحانه وتعالى ذكر في هذه الآيات من أول سورة الجاثية ستة براهين من براهين التوحيد الدالة على عظمته وجلاله وكمال قدرته، وأنه المستحق للعبادة وحده.
الأول منها: خلقه السماوات والأرض.
الثاني: خلقه الناس لقوله: (وفي خلقكم).
الثالث: خلقه الدواب.
الرابع: اختلاف الليل والنهار.
الخامس: إنزال الماء من السماء، وإحياء الأرض به.
السادس: تصريف الرياح.
وذكر أن هذه الآيات والبراهين إنما ينتفع بها المؤمنون الموقنون الذين يعقلون عن الله حججه وآياته، فكأنهم هم المختصون بها دون غيرهم، ولذا قال: (لآيات للمؤمنين)، ثم قال: (آيات لقوم يوقنون)، ثم قال: (آيات لقوم يعقلون).
وذكر العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى تفصيل هذه الآيات كما بينتها المواضع الأخرى من القرآن الكريم.
ونتوقف فقط عند أحد هذه الأدلة وهو الخامس منها؛ لأن الكلام تكرر عما سبق من قبل مراراً، فنتكلم عن إنزال الماء من السماء وإحياء الأرض به، وإنبات الرزق فيها، كما في قوله: ((وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ))، فقد بينته آيات أخرى من القرآن الكريم، كقوله تعالى: ﴿فَلْيَنْظُرِ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ * أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا * ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقًّا * فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا * وَعِنَبًا وَقَضْبًا﴾ [عبس: ٢٤ - ٢٨]، إلى قوله: ﴿مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ﴾ [عبس: ٣٢]، وهذه الآية تدل على وجوب النظر والتفكر في خلق الله سبحانه وتعالى لهذا الإنسان، وقوله: (فلينظر) أمر من الله تعالى لكل إنسان مكلف أن ينظر ويتأمل في طعامه الذي يأكله ويعيش به، إنما هو من خلق الله الذي كان سبباً لنباته، وهل يقدر أحد غير الله سبحانه وتعالى أن يخلق هذا النبات أو الماء أو البذر الذي كان منه هذا الخبز؟
ﷺ لا.
ثم هب أن الماء الذي كان سبباً لحياة النبات قد خلق بالفعل، هل يقدر أحد غير الله أن ينزله إلى الأرض على هذا الوجه الذي يحصل به النفع، من غير ضرر بإنزاله على الأرض حتى تروى به الأرض تدريجياً من غير أن يحصل به هدم ولا غرق، كما قال تعالى: ﴿فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ﴾ [النور: ٤٣]؟
ﷺ لا.
لا توجد قوة بشرية تتحكم في الماء الذي هو سبب أساسي جداً بالنسبة لحياة كل الكائنات الحية، فما هي إلا رحمة الله سبحانه وتعالى.
هذا الهواء الذي نتنفسه متاع لجميع الناس، هل هناك شركة تصرف لنا الهواء الذي نتنفسه؟ تخيل لو أن أحداً من البشر يملك خزائن رحمة الله سواء من الهواء الذي نتنفسه، أو من الماء الذي نشربه ونحيا به إلى غير ذلك من هذه النعم العامة! ثم هب أن الماء قد خلق فعلاً وأنزل في الأرض على ذلك الوجه الأتم الأكمل، هل يقدر أحد غير الله أن يشق الأرض ويخرج منها من ثمار النبات؟ الجواب: لا.
ثم هب أنك وضعت البذرة في وضع غير الوضع الذي ينبغي أن تكون عليه في التربة، فسوف تجدها بعد حين اعتدلت وأخذت الوضع الصحيح، بحيث أن الجذر يتجه إلى أسفل، والساق يتجه للأعلى، من الذي يفعل هذا؟ إنه الله سبحانه وتعالى.
ثم هب أن النبات خرج من الأرض فانشقت عنه، فهل يقدر أحد غير الله أن يخرج السنبل من ذلك النبات؟ هذه كلها من آيات الله سبحانه وتعالى التي يجب علينا أن نمتثل أمره الواجب في التفكر فيها، (فلينظر الإنسان إلى طعامه)، فواجب وفريضة وحتم ولازم أن نتفكر في هذه النعم التي أسبغها الله سبحانه وتعالى علينا.
فلابد أننا نلتفت إلى أن هناك قوة، فكل هذه الأشياء لا تحصل بدون مدبر وصانع، وهو الله سبحانه وتعالى، فإنه وراء كل مظاهر كل شيء في هذا الوجود، فلا حول ولا قوة إلا بالله.
فأي نبات أو أي حركة في هذه الدنيا وفي هذا العالم إنما هي بإرادة الله وبقوة الله عز وجل ومشيئته، فالناس ينظرون إلى النبات وهو ينمو، لكن يجب أن نتفكر ما الذي يُنمِّي هذا النبات؟ هي قوة الله سبحانه وتعالى.
الجنين ينمو فمن الذي ينميه من نطفة من ماء مهين، فيجعله بشراً سوياً؟ إنها قوة الله سبحانه وتعالى.
ولذلك تحداهم الله عز وجل فقال: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ * مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ﴾ [الحج: ٧٣ - ٧٤]، تحداهم الله سبحانه وتعالى، وقطع بأنهم يعجزون عن الخلق، ولذلك جزم بقوله: (لن يخلقوا ذباباً)، الذي هو أهون شيء، (ولو اجتمعوا له)، وهذا التحدي قائم إلى الآن وإلى أن تقوم الساعة، لن يستطيعوا أبداً أن يخلقوا شيئاً مهما كان هذا الشيء حقيراً، بل إن من أخطر وأضر مخلوقات الله التي نعرفها الفيروسات، انظر كيف تأتي بالدمار وبالأمراض الخطيرة جداً مع أنها من الكائنات الدقيقة، ومع ذلك هي جند من جنود الله يسلطها على أعدائه المتمردين عليه.
فالشاهد: أننا لابد أن نلتفت إلى هذه القوة، فهذا هو الذي ينبغي أن يكون عليه تفكير المؤمن؛ أن ينسب هذه القوة التي لا نراها -لكن نحس أثرها- إلى فعل الله عز وجل.
يقول: ثم هب أن النبات خرج من الأرض وانشقت عنه، فهل يقدر أحد غير الله أن يخرج السنبل من ذلك النبات؟ الجواب: لا.
ثم هب أن السنبل خرج من النبات، فهل يقدر أحد غير الله أن ينمي حبه وينقله من طور إلى طور حتى ينبت ويكون صالحاً للغذاء والقوت؟ الجواب: لا، وقد قال تعالى: ﴿انظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ [الأنعام: ٩٩].
وكقوله تعالى: ﴿وَأَنزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا * لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا * وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا﴾ [النبأ: ١٤ - ١٦].
وقال سبحانه وتعالى: ﴿وَآيَةٌ لَهُمُ الأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ﴾ [يس: ٣٣].
واعلم أن إطلاق الله سبحانه وتعالى الرزق على الماء في آية الجاثية هذه، إنما هو باعتبار أن الماء سبب لحصول الرزق، كما قال في سورة المؤمن (سورة غافر): ﴿هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا﴾ [غافر: ١٣].