تفسير قوله تعالى: (أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم)
قال تبارك وتعالى: ﴿أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ﴾ [الجاثية: ٢٣].
(أفرأيت من اتخذ إلهه هواه)، أي: من ترك متابعة الهدى إلى متابعة الهوى، فكأنه يعبده، فجعله إلهاً، وهذا تشبيه بليغ أو استعارة.
والهوى إله يعبد من دون الله، فكلمة (إله) تطلق على الإله الحق، وعلى الإله الباطل، وتطلق أيضاً بمعنى معبود، وهناك من يعبد الآلهة الباطلة؛ ولذلك قلنا في معنى لا إله إلا الله: لا إله حق إلا الله، وليس معناها لا إله موجود إلا الله؛ لأنه من حيث الواقع فالمعبودون من دون الله كثيرون؛ فالشيطان إله يعبد من دون الله، كما قال تبارك وتعالى: ﴿أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ﴾ [يس: ٦٠]، فهناك من إلهه الشيطان، والهوى إله كما في هذه الآية وفي آية الفرقان: ﴿أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا﴾ [الفرقان: ٤٣]، والمال إله يعبد من دون الله كما في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميصة، تعس عبد القطيفة، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش)، والشهوات إله تعبد من دون الله، وهكذا كل ما عبد من دون الله فهو إله، لكنها كلها آلهة باطلة، ولا يستحق أن يعبد إلا الله عز وجل وحده لا شريك له.
يقول القاشاني: الإله المعبود، ولما أطاعوا الهوى فقد عبدوه وجعلوه إلهاً، إذ كل ما يعبده الإنسان بمحبته وطاعته فهو إلهه، ولو كان حجراً.
(وأضله الله على علم)، يعني: أضله الله على علمه السابق فيه أنه لا يهتدي ولو جاءته كل آية.
أو: (أضله الله على علم) أي: عالم بحاله من زوال استعداده، وانقلاب وجهه إلى الجهة السفلية، أو: مع كون ذلك العابد للهوى عالماً يعلم ما يجب عليه فعله في الدين، على تقدير أن يكون (على علم) حال من الضمير المفعول في (أضله الله)، فإما أن يكون حال، أي: أضله الله على علم منه مسبق فيه أنه لن يهتدي أو: أنها حال من الضمير الهاء، وأضله مفعول فهو يعلم ما يجب عليه من أمر الدين، وحينئذ يكون إضلاله؛ لمخالفته علمه، لتشرب قلبه بمحبة النفس وغلبة الهوى، أو: على علم منه غير نافع، لكونه من باب الفضول، ليس فيه إلى الحق سلوك ووصول، يعني: له علم لا قيمة له.
(وختم على سمعه وقلبه) أي: بالطرد عن باب الهدى، والإبعاد عن محل سماع كلام الحق وفهمه بمكان الرين وغلظ الحجاب، فلا يعقل منه شيئاً.
(وجعل على بصره غشاوة)، أي: عن رؤية حجج الله وآياته.
وكما تلاحظون فإنه جعل الختم على السمع والقلب، أما البصر فقال: (وجعل على بصره غشاوة)، وهذا دليل لمن رأى الوقف في أول سورة البقرة في قوله تبارك وتعالى: ﴿خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ﴾ [البقرة: ٧]، فهنا تقف، ثم تواصل: ﴿وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ﴾ [البقرة: ٧]، فهذه الآية دليل لمن رأى الوقف على قوله تبارك وتعالى: (وعلى سمعهم).
(فمن يهديه من بعد الله) أي: فمن يوفقه لإصابة الحق بعد إضلال الله إياه، وهذا يرجحهإعراب (على علم) أنها حال من الله سبحانه وتعالى.
(فأضله الله على علم)، يعني: بعلم الله السابق أنه لا يهتدي ولو جاءته كل آياته.
(فمن يهديه من بعد الله) أي: من يوفقه لإصابة الحق بعد إضلال الله إياه.


الصفحة التالية
Icon