تفسير قوله تعالى: (وقال الذين كفروا للذين آمنوا لو كان خيراً ما سبقونا إليه)
أشار تبارك وتعالى إلى حكاية نوع من أباطيلهم في التنزيل، فقال سبحانه وتعالى: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ﴾ [الأحقاف: ١١].
(وقال الذين كفروا للذين آمنوا لو كان خيراً ما سبقونا إليه)، أي: لو كان الإيمان، أو لو كان ما أتى به الرسول ﷺ خيراً ما سبقتمونا إليه، أي: لو كان من عند الله لكنا أولى به كسائر الخيرات من المال والجاه.
قال ابن كثير: يعنون بلالاً وعماراً وصهيب وخباباً رضي الله تعالى عنهم، وأشباههم وأضرابهم من المستضعفين والعبيد والإماء، وما ذاك إلا لأنهم عند أنفسهم يعتقدون أن لهم عند الله وجاهة وله بهم عناية، وقد غلطوا في ذلك غلطاً فاحشاً وأخطئوا خطأً بيناً، كما قال تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا﴾ [الأنعام: ٥٣]، يقول الله تعالى: ﴿أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ﴾ [الأنعام: ٥٣]، بلى.
أي: يتعجبون كيف ساد هؤلاء دوننا؟! ولهذا قالوا: (لو كان خيراً ما سبقونا إليه).
وهذه العبارة من كلام ابن كثير ينبغي أن تحفظ؛ لأنها عبارة رائعة من ابن كثير رحمه الله، فهو يفرق بين قول أهل الحق، أهل السنة والجماعة، وبين قول هؤلاء الكافرين المتمردين المتكبرين في نظرة كل فريق إلى الصحابة رضي الله تعالى عنهم، فهم إن كانوا يقولون: لو كان الإسلام خيراً ما سبقونا إليه احتقاراً وازدراءً لهم فإنا نردد مع ابن كثير رحمه الله تعالى قوله: (وأما أهل السنة والجماعة فيقولون في كل فعل وقول لم يثبت عن الصحابة رضي الله عنهم: هو بدعة؛ لأنه لو كان خيراً لسبقونا إليه؛ لأنهم لم يتركوا خصلة من خصال الخير إلا وقد بادروا إليها رضي الله تعالى عنهم أجمعين)، فهذه عبارة حقها أن تكتب بماء العيون ليس فقط بماء الذهب.
ونحن والكفار كلانا لنا موقف من الصحابة رضي الله تعالى عنهم، فهم يقولون: (لو كان خيراً ما سبقونا إليه)، فقد كانوا يحتقرون ضعفاء الصحابة رضي الله تعالى عنهم وفقراءهم وعبيدهم بأن يقولوا: (لو كان خيراً ما سبقونا إليه) استكباراً وعلواً واحتقاراً وازدراءً لهم.
أما أهل الحق في كل عصر وفي كل دين إلى أن تقوم الساعة فإنهم يقولون: (لو كان خيراً لسبقونا إليه)؛ لأنهم أولى الناس بالخير، وفي هذه العبارة يدفع في صدر كل مبتدع أياً كان إذا كان يبتدع شيئاً لم يفعله الصحابة؛ فإننا ندرأ في نحره بهذه العبارة الرائعة من كلام ابن كثير رحمه الله تعالى: وأما أهل السنة والجماعة فيقولون في كل فعل وقول لم يثبت عن الصحابة رضي الله تعالى عنهم: هو بدعة؛ لأنه لو كان خيراً لسبقونا إليه؛ لأنهم لم يتركوا خصلة من خصال الخير إلا وقد بادروا إليها.
انتهى كلام ابن كثير رحمه الله تعالى.
﴿وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ﴾ [الأحقاف: ١١].
(وإذ لم يهتدوا به) يعني: بالقرآن.
(فسيقولون هذا إفك قديم) أي: كذب قديم، كما قالوا: ﴿أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ﴾ [الأنعام: ٢٥]، قال ابن كثير: فيتنقصون القرآن وأهله، وهذا هو الكبر الذي قال رسول الله ﷺ في حده: (الكبر بطر الحق وغمط الناس)، فهم جمعوا بين هذين الركنين من أركان الكبر: بطر الحق: تكبر عن الانقياد إلى الحق، واحتقار الناس: فهم احتقروا الصحابة وقالوا: (لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ)، وتنقصوا القرآن بأن لم ينقادوا به، بأن قالوا فيه: ﴿هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ﴾، هذا أساطير الأولين، فجمعوا بين هذين الركنين اللذين هما ركنا الكبر.
فأهل القرآن ينبغي أن يكونوا أعظم الناس حظاً من التبجيل والاحترام؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام سماهم باسم ينبض بأعظم معاني التكريم ورفع الشأن حينما قال: (أهل القرآن هم أهل الله وخاصته)، فهم خاصة الله عز وجل من بين الخلق، وهم أيضاً الذين مدحهم النبي ﷺ بقوله: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه)، ولذلك فقوله عليه الصلاة والسلام: (من لم يتغنَّ بالقرآن فليس منا) على تفسيرات عدة: منها: من لم يشعر بأنه أغنى خلق الله إذا حاز القرآن بين جنبيه وفي صدره، فهذا قد حاز أعظم الغناء، ولذلك قال الله تعالى للنبي عليه الصلاة والسلام بعدما قال له سبحانه وتعالى أولاً: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ﴾ [الحجر: ٨٧]، فمن ثم نهاه بعدها مباشرة وقال: ﴿لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ﴾ [الحجر: ٨٨]؛ لأنك غني بالقرآن، فلا تحتاج أبداً أن تنظر إلى زينة الحياة الدنيا، فالزينة هي القرآن وهي الإيمان، أما هؤلاء الكفار فقد تمكنوا من صفة الكبر، واستوفوا ركني الكبر اللذين هما: بطر الحق، فتكبروا عن الانقياد للحق حينما قالوا: ((هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ))، أو قالوا: ﴿أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ﴾ [الأنعام: ٢٥]، وغمط الناس حينما قالوا في المؤمنين: ((لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ)).
كان رجل يقول: ما من علم إلا ويوجد في القرآن، فقال له رجل على سبيل التحدي والتعجيز: فأين في القرآن: إن المرء عدو ما يجهل؟ فقال له: في قوله تعالى: ((وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ))؛ لأنه لما جهل القرآن وجهل الحق عاداه.
قال العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى في تفسير قوله تعالى: ((وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ)): أظهر أقوال العلماء في هذه الآية الكريمة: أن الكافرين الذين قالوا للمؤمنين: (لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ): أنهم كفار مكة، وأن مرادهم: أن فقراء المسلمين وضعفاءهم كـ بلال وعمار وصهيب وخباب ونحوهم رضي الله تعالى عنهم أحقر عند الله من أن يختار لهم الطريق التي فيها الخير، وأنهم هم الذين لهم عند الله عظمة وجاه واستحقاق السبق لكل خير بزعمهم، وأن الله أكرمهم في الدنيا بالمال والجاه، وأن أولئك الفقراء لا مال لهم ولا جاه، وأن ذلك التفضيل في الدنيا يستلزم التفضيل في الآخرة، وهذا المعنى تدل له آيات كثيرة من كتاب الله، وخير ما يفسر القرآن به القرآن.
أما ادعاؤهم: أن ما أعطوا من المال والأولاد والجاه في الدنيا دليل على أنهم سيعطون مثله في الآخرة، فتكذيب الله لهم في ذلك قد جاء موضحاً في آيات كثيرة، كقوله تعالى: ﴿أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لا يَشْعُرُونَ﴾ [المؤمنون: ٥٥ - ٥٦]، فمن الاغترار ومن الجهل والحمق أن يظن هؤلاء الكفار أن الله إن كان أعطاهم الدنيا فلابد أن ما هم فيه خير، وأنه سوف يؤتيهم مثله في الدار الآخرة، كلا؛ لأن الله سبحانه وتعالى يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب، ولا يعطي الدين والإيمان إلا لمن أحب واصطفى.
ففي ميزان الله سبحانه وتعالى لا الصور ولا الأحساب ولا الأنساب ولا المال ولا الجاه يؤثر على الإطلاق، وإنما أكرمكم عند الله أتقاكم، وإلا فكل البشر سواء؛ لا فضل لعربي على أعجمي لأبيض على أسود ولا لأحمر على أسود إلا بالتقوى كما بين النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال تعالى: ﴿أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا * أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا * كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا * وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا﴾ [مريم: ٧٧ - ٨٠]، وقال تعالى: ﴿وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ﴾ [سبأ: ٣٥]، مع قوله: ﴿وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى﴾ [سبأ: ٣٧]، وقال تعالى: ﴿وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ﴾ [فصلت: ٥٠]، وفي سورة الكهف: ﴿وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنقَلَبًا﴾ [الكهف: ٣٦].
وأما احتقار الكفار لضعفاء المؤمنين وفقرائهم، وزعمهم أنهم أحقر عند الله من أن يصيبهم بخير، وأن ما هم عليه لو كان خيراً لسبقهم إليه أصحاب الغناء والجاه والولد من الكفار فقد دلت عليه آيات أخرى، كقوله تعالى في سورة الأنعام: ﴿وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا﴾ [الأنعام: ٥٣]، فهمزة الإنكار في قوله: (أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ) تدل على إنكارهم أن الله يمن على أولئك الضعفاء بخير، وقد رد الله عليهم بقوله: ﴿أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ﴾ [الأنعام: ٥٣]، بلى: ﴿وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [الأنعام: ٥٤].
وقال تعالى في الأعراف: (


الصفحة التالية
Icon