التكليف والابتلاء والجزاء
ومن الحق الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما خلقاً متلبساً به: تكليف الخلق وابتلاؤهم أيهم أحسن عملاً، ثم جزاؤهم على أعمالهم، كما قال تعالى في أول سورة هود: ﴿وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾ [هود: ٧]، فمن الحق الذي تلبس بخلق السماوات والأرض: (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا)، فلام التعليل في قوله: (ليبلوكم) متعلقة بقوله: (خلق السماوات والأرض)، فيكون قوله: (وهو الذي خلق السماوات والأرض)، إلى قوله: (ليبلوكم أيكم أحسن عملاً)، يدل على أنه ما خلقهما إلا خلقاً متلبساً بالحق.
ونظير ذلك قوله تعالى في أول سورة الكهف: ﴿إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾ [الكهف: ٧]، وقال في أول الملك: ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾ [الملك: ٢]، وقال في آخر الذاريات: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات: ٥٦]، أي: إلا ليعبدوني وحدي ولا يشركوا بي شيئاً.
وسواء قلنا: إن معنى (إلا ليعبدون): إلا لآمرهم بعبادتي فيعبدني السعداء منهم؛ لأن عبادتهم يحصل بها تعظيم الله وطاعته والخضوع له، كما قال تعالى: ﴿فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ﴾ [الأنعام: ٨٩]، وقال تعالى: ﴿فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ﴾ [فصلت: ٣٨]، أو قلنا: إن معنى (إلا ليعبدون): إلا ليقروا لي بالعبودية ويخضعوا ويذعنوا لعظمتي؛ لأن المؤمنين يفعلون ذلك طوعاً، والكفار يذعنون لقهره وسلطانه تعالى كرهاً.
ومعلوم أن حكمة الابتلاء والتكليف لا تتم إلا بالجزاء على الأعمال، ولذلك بين الله سبحانه وتعالى أن من الحق الذي خلق السماوات والأرض خلقاً متلبساً به جزاء الناس بأعمالهم.
وقال في سورة النجم: ﴿وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى﴾ [النجم: ٣١]، فقوله تعالى: (وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ) أي: هو خالقهما وخالق ما فيهما، (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى).
وهذا أيضاً إعلام منه عز وجل بأنه خلق ما في السماوات وما في الأرض ليجزي الناس بأعمالهم، ويوضح ذلك قوله تعالى في سورة يونس: ﴿إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ﴾ [يونس: ٤].
لما ظن الكفار أن الله خلق السماوات والأرض وما بينهما باطلاً -بغير حق- لا لحكمة التكليف ولا الحساب ولا الجزاء؛ أبدلهم الويل من النار بسبب ذلك الظن السيئ، قال تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ﴾ [ص: ٢٧]، فنزه الله سبحانه وتعالى نفسه عن كونه خلق الخلق عبثاً لا لتكليف وحساب وجزاء، وأنكر ذلك على من ضل في قوله تعالى: ﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ﴾ [المؤمنون: ١١٥] * ﴿فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ﴾ [المؤمنون: ١١٦]، تعالى وتنزه عن أن يخلق خلقه عبثاً، ﴿لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ﴾ [المؤمنون: ١١٦].
وهذا الذي نزه الله تعالى عنه نفسه نزهه عنه أولو الألباب من خلقه، كما قال تعالى: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ [آل عمران: ١٩١ - ١٩١]، فمعنى: (سبحانك) تنزيهاً لك عن أن تكون خلقت هذا الخلق باطلاً لا لحكمة تكليف وبعث وحساب وجزاء.
وقوله تبارك وتعالى هنا في آية الأحقاف: ((مَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ))، يفهم منه أنه لم يخلق ذلك باطلاً ولا لعباً ولا عبثاً كما صرح بهذا المفهوم في قوله: ﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا﴾ [ص: ٢٧]، وفي قوله: ((رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا)) [آل عمران: ١٩١]، وفي قوله تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ * مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ﴾ [الدخان: ٣٨ - ٣٩].
وقوله: ((وَأَجَلٍ مُسَمًّى))، هذا معطوف على قوله: (بالحق)، أي: وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا خلقاً متلبساً بالحق، وبتقدير أجل مسمى، أي: وقت معين محدد ينتهي إليه أمد السماوات والأرض، وهو يوم القيامة، كما صرح الله بذلك في أخريات سورة الحجر في قوله: ﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ﴾ [الحجر: ٨٥]، وانظر كيف قرن خلق السماوات والأرض وما بينهما بالحق بقوله: (وإن الساعة لآتية) إشارة إلى ما ذكر هنا في هذه الآية: (إلا بالحق وأجل مسمى).
وقد بين تعالى في آيات من كتابه أن للسماوات والأرض أمداً ينتهي إليه أمرهما، كما قال تعالى: ﴿وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ﴾ [الزمر: ٦٧]، وقال تعالى: ﴿يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ﴾ [الأنبياء: ١٠٤]، وقال تعالى: ﴿يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ﴾ [إبراهيم: ٤٨]، وقال تعالى: ﴿وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ﴾ [التكوير: ١١]، وقال: ﴿يَوْمَ تَرْجُفُ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ﴾ [المزمل: ١٤]، إلى غير ذلك من الآيات.


الصفحة التالية
Icon