تفسير قوله تعالى: (سيهديهم ويصلح بالهم)
قال الله تعالى: ﴿فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ * سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ * وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ﴾ [محمد: ٥ - ٦].
سبق أن تكلمنا في الحكمة من تشريع الجهاد، وقد ذكر الله سبحانه وتعالى في هذه الآية الكريمة بعض أحكام الجهاد وشرحناها فيما مضى، ثم لما كان من شأن القتال أن يقتل فيه كثير من المؤمنين قال الله سبحانه وتعالى: ((وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ)) أي: لن يذهبها، بل يكثرها وينميها ويضعفها، ومنهم من يجري عليه عمله في طول برزخه، أي: منهم من يجري عليه ثواب عمله الصالح ما دام في البرزخ، ويستمر وكأنه لم يمت.
فلذلك قال تعالى: ((وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ))، فجاء هذا الثواب العظيم للشهادة والقتل في سبيل الله في هذه الآية وغيرها من الآيات والأحاديث؛ لأنه ربما يخشى الإنسان أن يقتل في سبيل الله فيلقى الله وعليه ذنوب وخطايا أو غير ذلك مما يخشى منه، فضمن الله لهم الثواب الجزيل كما سيأتي تفصيله إن شاء الله تعالى؛ ترغيباً لهم في التقدم نحو الجهاد في سبيل الله عز وجل.
يقول تبارك وتعالى: ((وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ)).
قال بعض المفسرين: يريد قتلى أحد من المؤمنين، ((فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ)) أي: لن يذهبها، بل سيكثرها وينميها ويضاعفها، ومنهم من يجري عليه عمله في طول برزخه، فقد روى الإمام أحمد في مسنده عن قيس الجذامي -رجل كانت له صحبة- رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يعطى الشهيد ست خصال عند أول قطرة من دمه: يكفر عنه كل خطيئة) وهذا كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن السيف محاء للخطايا) أي: يمحو ويكفر خطايا الإنسان، (ويرى مقعده من الجنة، ويزوج من الحور العين، ويؤمن من الفزع الأكبر، ومن عذاب القبر، ويحلى حلة الإيمان).
وروى الإمام أحمد أيضاً عن المقداد بن معدي كرب الكندي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن للشهيد عند الله ست خصال: أن يغفر له في أول دفعة من دمه، ويرى مقعده من الجنة، ويحلى حلة الإيمان، ويزوَّج من الحور العين، ويجار من عذاب القبر، ويأمن من الفزع الأكبر، ويوضع على رأسه تاج الوقار؛ الياقوتة منه خير من الدنيا وما فيها، ويزوج اثنتين وسبعين زوجة من الحور العين، ويشفع في سبعين إنساناً من أقاربه)، أخرجه الترمذي وصححه ابن ماجة.
وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، وعن أبي قتادة رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال: (يغفر للشهيد كل شيء إلا الدين) (إلا الدين)؛ لأن هذا حق للآدميين، فلا بد أن يؤدى ويستوفى.
وروي عن جماعة من الصحابة رضي الله تعالى عنهم، فقال أبو الدرداء رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يُشفَّع الشهيد في سبعين من أهل بيته)، رواه أبو داود.
((والذين قاتلوا في سبيل الله فلن يضل أعمالهم))، وهذه قراءة العامة -أي: عامة القراء أو جمهورهم- وهي اختيار أبي عبيد، وقرأ أبو عمرو وحفص ((وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ))، وكذلك قرأ الحسن إلا أنه شدد التاء على التكثير، أي: ((قتِّلوا) وقرأ الجحدري وعيسى بن عمر وأبو حيوة: (والذين قَتَلوا في سبيل الله) أي: قتلوا المشركين.
وقد رجح بعض العلماء هذه القراءة ((والذين قتلوا في سبيل الله)) من حيث المعنى، وذلك أن السياق يناسبه أن يكون هذا في الدنيا؛ لأنهم قتلوا المشركين وبقوا في الدنيا يعملون، فهم لم يفارقوا الحياة الدنيا، ولذلك قال: ((فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ)).
ثم قال: ((سَيَهْدِيهِمْ)) أي: فيما يستقدم مما تبقى من أعمارهم، إذا فهم لا زالوا في الدنيا؛ لأن الآخرة دار جزاء.
فهم ركزوا على كلمة: ((سَيَهْدِيهِمْ))، ففهموا من ذلك أنهم لابد أن يبقوا أحياء بعد قتلهم غيرهم، وأما لو كانوا قد قتلوا فهذا بعيد.
لكن هذا المذهب مرجوح وسنوضح إن شاء الله تعالى عما قريب سبب ذلك.
وقرأ الجحدري وعيسى بن عمر وأبو حيوة: (والذين قَتَلوُا) أي: قتلوا المشركين في سبيل الله، وقال قتادة: ذُكر لنا أن هذه الآية نزلت يوم أحد ورسول الله ﷺ في الشعب، وقد فشت فيهم الجراحات -أي: جراحات القتل-، ولما وجد المشركون الجراحات كثيرة، وقد قتل عدد كبير من المسلمين اغتروا وتكبروا وأخذوا ينادون: اعل هبل اعل هبل، فينادون بالعلو الإلهي لهبل، وهو أحد أصنامهم، فرد عليهم المسلمون: الله أعلى وأجل، وقال المشركون يوم بيوم بدر، والحرب سجال، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (قولوا: لا سواء لا سواء -أي: لا نستوي نحن وأنتم-؛ فقتلانا أحياء عند ربهم يرزقون، وقتلاكم في النار يعذبون فقال المشركون: لنا العزى ولا عزى لكم.
فقال المسلمون: الله مولانا ولا مولى لكم).
قال القشيري: قراءة أبي عمرو (قُتِلُوا) بعيدة لقوله تعالى: ﴿سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ﴾، والمقتول لا يوصف بأنه سوف يُهدى؛ لأنه قد فارق الحياة.
وقال غيره: يكون المعنى على قراءة: ((وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ)) * ﴿سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ﴾، إذا رجعنا إلى تذكر أنواع الهداية التي دائماً ما نتكلم عنها فأولها: الهداية العامة لجميع الخلق، وغير ذلك من أنواع الهداية التي تنتهي بالهداية في الدار الآخرة، وهي: هداية المؤمنين إلى الجنة وهداية الكفار إلى النار.
إذاً: لا استبعاد على الإطلاق في قراءة: ((وَالَّذِينَ قُتِلُوا))، وهي قراءة أبي عمرو وحفص؛ لأن هذا لا يتنافى مع قوله تعالى: ﴿سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ﴾؛ لأن المعنى يكون: سيهديهم إلى الجنة، أو سيهدي من بقي منهم، أي: يحقق لهم الهداية.
وقال ابن زياد: سيهديهم إلى محاجة منكر ونكير في القبر، ويثبتهم عند السؤال في القبر.
وقال أبو المعالي: وقد ترد الهداية والمراد بها إرشاد المؤمنين إلى مسالك الجنان، والطرق المفضية إليها، ومن ذلك قوله تعالى في صفة المجاهدين: ((فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ)) * ((سَيَهْدِيهِمْ)) أي: إلى الطريق المؤدية إلى الجنة، وأما هداية الآخرة فكما في هداية الكفار إلى صراط الجحيم، قال تعالى: ﴿فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ﴾ [الصافات: ٢٣] أي: فاسلكوا بهم إلى صراط الجحيم.
وقال ابن كثير: ((سَيَهْدِيهِمْ)) أي: إلى الجنة؛ لقوله تبارك وتعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ﴾ [يونس: ٩].
ويمكن أن نضيف إلى قول ابن كثير آية أخرى وهي قوله تعالى: ﴿وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ﴾ [الأعراف: ٤٣]، وهذا كلام المؤمنين الذين يدخلون الجنة كما هو السياق في سورة الأعراف.


الصفحة التالية
Icon