تفسير قوله تعالى: (أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم)
قال الله تبارك وتعالى: ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا﴾ [محمد: ١٠].
يقول القاسمي رحمه الله تعالى: ((أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ)) أي: عاقبة من قبلهم من الأمم المكذبة لرسلها، الرادة لنصائحهم ((دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ)) أي: ما اختصوا به وكان لهم.
يقال: دمره، بمعنى: أهلكه، ودمر عليه: أهلك ما يختص به من المال والنفس، والثاني أبلغ، أي: أن قوله: ((دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ)) أبلغ من عبارة: دمرهم؛ لأن قوله: ((دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ)) تعم في هذه الحالة إهلاك أنفسهم، وإهلاك ما يختص بهم كالأموال وغيره، فإذا قلت: دمرهم الله، ففيه ذكر المفعول به وهو الضمير: (هم)، من دمرهم الله، وأما قوله: ((دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ)) فإنه لم يصرح بالمفعول؛ لأن الله دمرهم ودمر كل ما يختص بهم، فكأنهم قد صاروا نفياً منفياً عدماً، ولذلك لم يذكر المفعول إيماءً إلى أن التدمير يعمهم ويعم ما يختص به.
وأتى بكلمة بعلى في قوله: ((دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ)) لأن كلمة ((دَمَّرَ)) ضُمِّنت معنى: أطبق عليهم، وكلمة ((أطبق)) تتعدى بعلى، فمعنى: ((دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ)) أي: أطبق عليهم، ومعنى ذلك: أنه أوقعه عليهم محيطاً بهم من كل الجهات، أو ((دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ)) أي: هجم الهلاك عليهم، وأتاهم بغتة.
قوله: ((وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا)): المقصود بالكافرين هنا: المكذبين للرسول محمد صلى الله عليه وسلم، ((وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا)) أي: أمثال عاقبة تكذيب الأمم السالفة، فهذه الآية مما يستدل به على حجية دليل من الأدلة الشرعية وهو القياس، فالله سبحانه وتعالى هنا رغبهم إلى أن يقيسوا أحوالهم على أحوال الأمم المكذبة، فإذا كان حالهم كحالهم في تكذيب الرسل فليقيسوا عاقبتهم على عاقبة الأمم السالفة.
وهذه الآية الكريمة إنما ذكرها الله سبحانه وتعالى بعدما بيّن أحوال المؤمن والكافر تنبيهاً على وجوب الإيمان في الآيات السابقة، قال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾ فهذا حال المؤمنين، ثم قال: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ﴾ * ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ﴾ ثم وصل هذا بالأمر بالتفكر والاعتبار والتدبر والسياحة في الأرض؛ ليروا آثار القوم المهلَكين، فقال: ((أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ)) أي: ألم يسر هؤلاء في أرض عاد وثمود وقوم لوط وغيرهم ليعتبروا بهم، ((فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ)) أي: فينظروا بقلوبهم، ((كَيْفَ كَانَ)) آخر أمر الكافرين قبلهم، ((دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ)) أي: أهلكهم واستأصلهم، ثم توعد المشركين، فقال: ((وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا)) أي: أمثال هذه الفعلة، يعني: التدمير.
وقال الزجاج والطبري: أن الهاء في قوله: ((وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا)) تعود إلى العاقبة في قوله: ((كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ))، أي: وللكافرين من قريش أمثال عاقبة تكذيب الأمم السالفة إن لم يؤمنوا.