تفسير قوله تعالى: (والذين اهتدوا زادهم هدىً)
قال الله تبارك وتعالى: ﴿وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ﴾ [محمد: ١٧]، (والذين اهتدوا) أي: للإيمان (زادهم الله هدىً)، وقيل: (زادهم هدىً) أي: زادهم النبي ﷺ هدىً، وقيل: ما يستمعونه من القرآن هدى أي: يتضاعف يقينهم، ولاشك أن هذا أحد الأدلة على أن الإيمان يزيد وينقص؛ لأن القاعدة: أن ما كان قابلاً للزيادة فإنه يكون قابلاً للنقص، والأدلة على ذلك كثيرة جداً، وهذه من عقائد أهل السنة والجماعة التي فارقهم فيها أهل الأهواء والبدع كالمرجئة، فقد ذهبوا إلى أن الإيمان لا يزيد ولا ينقص، ولا يتفاضل أهله فيه، وهذا غير صحيح؛ فكلما تعلم الإنسان أكثر وزاد من الأعمال الصالحة ازداد عنده الإيمان، فكثير من الناس يسألون وهم متحيرون، فيقول أحدهم: إنه يشعر بضعف إيمانه، ويشعر بضعف يقينه، ويشعر بتراجع في قوة إيمانه، والأمر في ذلك واضح، فكما ازددتَ من الأعمال الصالحة ازداد وارتفع الإيمان في قلبك، وكلما أكثرت من ذكر الله، ومن قراءة القرآن، وتجنبت المعوقات كإطلاق البصر، ومقارنة جلساء السوء، والتعرض لمواقع الفتن، ووفرت الشروط، ونفيتَ الموانع شعرت في نفسك بقوة الإيمان وزيادته، فهذا الأمر محسوس، فكلما أتيت من شعب الإيمان بما هو أكثر، واجتهدت في ذلك فستشعر أن مرض القلب سوف يشفى بإذن الله تبارك وتعالى.
(والذين اهتدوا زادهم هدى) قال الفراء: زادهم إعراضُ المنافقين واستهزاؤهم هدىً، وقيل: زادهم نزول الناسخ هدى، وفي الهدى الذي زادهم الله أربعة أقاويل: قال الربيع بن أنس: زادهم علماً، وقال الضحاك: (أنهم علموا ما سمعوا، ثم عملوا بما علموا، أي: أنهم أعقبوا العلم الذي سمعوه بالعمل، وفي العمل بعد العلم زيادة هدى، وقد أعطى القرآن الكريم هذه المسألة اهتماماً عظيماً، فتردد في مواضع من القرآن الكريم أهمية ربط العلم بالعمل، كما في قوله تبارك وتعالى: ﴿أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ﴾ [البقرة: ٤٤]، وكما في قوله تبارك وتعالى: ﴿وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ﴾ [هود: ٨٨]، وفي قوله عز وجل: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ﴾ [الصف: ٢ - ٣]، وفي قوله عز وجل: ﴿وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ﴾ [يوسف: ٦٨]، أي: أنه كان يعمل بما علم، وجاء في تفسير قوله تبارك وتعالى: ﴿وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آبَاؤُكُمْ﴾ [الأنعام: ٩١]، أي: علمتم فلم تعملوا، فما ذلكم بعلم، فقد أثبت ونفى، فالمراد: علمتم شيئاً لم تعملوا به، فكأنكم لم تعلموه؛ لأنكم اشتركتم مع من يجهل هذا الأمر في عدم العمل، وقيل في قوله تبارك وتعالى: ﴿وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ﴾ [البقرة: ٢٧]: إنهم قطعوا كل ما أمر الله به أن يوصل، فمما أمر الله به أن يوصل: أن يوصل العلم بالعمل، فالتفريط في ما أمر الله به أن يوصل يدخل فيه: أن يتخلف العلم عن العمل، ويدخل فيما أمر الله به أن يوصل: وصل الإيمان بالأنبياء السابقين وبالنبي الذي أرسل إليه، ويدخل فيها أيضاً صلة الرحم، وغير ذلك مما أمر الله به أن يوصل.
إذاً: (والذين اهتدوا زادهم هدىً) قيل: علماً، وقيل: العمل بهذا العلم بعد أن سمعوه، وقيل: زادهم بصيرة في دينهم وتصديقاً لنبيهم صلى الله عليه وسلم، وقيل: شرح صدورهم بما هم عليه من الإيمان، (والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم) أي: ألهمهم إياها.
وقيل: فيه خمسة أوجه: الأول: (وآتاهم تقواهم) أي: آتاهم الخشية.
والثاني: (وآتاهم تقواهم) أي: أتاهم ثواب تقواهم في الآخرة.
والثالث: (وآتاهم تقواهم) أي: وفقهم للعمل الذي فرض عليهم.
الرابع: (وآتاهم تقواهم) أي: بين لهم ما ينبغي عليهم أن يتقوه ويتجنبوه مما نهى الله عنه.
الخامس: (وآتاهم تقواهم) قيل: هو ترك المنسوخ بالناسخ.
وقال الماوردي: ويحتمل أنه ترك الرخص والأخذ بالعزائم، وقرئ: (وأعطاهم تقواهم)، بدلاً من (وآتاهم).
قال عكرمة: هذه نزلت فيمن آمن من أهل الكتاب، (والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم).


الصفحة التالية
Icon