الكفر بالشيطان شرط في صحة الإيمان
ومن هذه المسائل أيضاً: أن الشيطان إله باطني يُعبد من دون الله عز وجل، وأن طاعة الشيطان شرك بالله العظيم، وأن الكفر به شرط في صحة الإيمان، ولما كان التشريع وجميع الأحكام -شرعية كانت أو كونية قدرية- من خصائص الربوبية كما بينا كان كل من اتبع تشريعاً غير تشريع الله قد اتخذ ذلك المشرِّع رباً، وأشركه مع الله.
ومما يدل على ذلك: المناظرة التي جرت بين حزب الرحمن حزب الشيطان، فقد أوحى الشيطان إلى أوليائه المشركين فقال لهم: سلوا محمداً ﷺ عن الشاة تصبح ميتة من الذي قتلها؟ فأجابهم بأن الله هو الذي قتلها، إذاً ذبيحة الله، فكيف تقولون: إن ما ذبحه الله حرام مع أنكم تقولون: إن ما ذبحتموه بأيديكم حلال؟! فأنتم إذاً أحسن من الله وأحل ذبيحة!! فأنزل الله -بإجماع من يعتد به من أهل العلم- قوله تعالى: ((وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ)) يعني: الميتة، حتى لو زعم الكفار أن الله ذكاها بيده الكريمة بسكين من ذهب في زعمهم.
والضمير في قوله: ﴿وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ﴾ [الأنعام: ١٢١] عائد إلى الأكل المفهوم من قوله تعالى: ((وَلا تَأْكُلُو))، فإنه -أي: الأكل منها- (لَفِسْقٌ)، أي: خروج عن طاعة الله، واتباع لتشريع الشيطان.
ثم قال تعالى: ﴿وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ﴾ [الأنعام: ١٢١]، فصارت هذه فتوى سماوية لمن خالف الله جل وعلا واتبع تشريع الشيطان بأنه مشرك بالله.
وقال تعالى: ﴿إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ﴾ [النحل: ١٠٠]، يعني: فيما يأمر به من الكفر والمعاصي.
وقال تعالى: ﴿أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾ [يس: ٦٠] * ﴿وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ﴾ [يس: ٦١].
وقال تعالى على لسان إبراهيم عليه السلام: ﴿يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا﴾ [مريم: ٤٤].
وقال تعالى: ﴿إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا﴾ [النساء: ١١٧]، يدعون هنا بمعنى: يعبدون.
وقال تعالى: ﴿وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ﴾ [سبأ: ٤٠ - ٤١] أي: أنهم كانوا يتبعون الشياطين ويطيعونهم فيما يشرعون ويزينون لهم من الكفر والمعاصي، على أصح التفسيرَيْن.
وأوضح النبي ﷺ هذا المعنى لما سأله عدي بن حاتم رضي الله عنه عن قوله تعالى: ((اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ)) [التوبة: ٣١] كيف اتخذوهم أرباباً؟ فأجابه صلى الله عليه وسلم: بأنهم أحلوا لهم ما حرم الله، وحرموا عليهم ما أحل الله، وبذلك الاتباع اتخذوهم أرباباً.
ومن أصرح الأدلة في هذا أن الكفار إذا أحلوا شيئاً يعلمون أن الله حرمه، أو حرموا شيئاً يعلمون أن الله أحله، فإنهم بذلك يزدادون كفراً جديداً مع كفرهم الأول، قال تعالى: ((ِإنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا)) إلى قوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ﴾ [التوبة: ٣٧]، فهذا يدل على الكفر في الأصل، ثم ما يأتون به من النسيء، وهو تحليل المحرم وتحريم صفر مكانه، فهذا مضاد لشريعة الله، وهو زيادة كفر على كفرهم الأول.
ثم بين الله سبحانه وتعالى أن الكفر بالطاغوت شرط في صحة الإيمان، فلا يصح الإيمان بالله سبحانه وتعالى إلا بالكفر بالطاغوت.
فلا يصح الإيمان بالله إلا بالكفر بالطاغوت، قال تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات: ٥٦]، فلا يقل أحد: أنا أعبد ربنا، ثم تراه يشرك مع الله غيره، ويظن أن عبادته تلك تصح! لا، فإن معنى (يعبدوني) أي: وحدي، وهكذا كل فعل أمر في القرآن، فقوله: (اعبدوا الله) معناها الدائم: اعبدوا الله وحده، ولذلك نقول دائماً في كلمة التوحيد: لا إله إلا الله وحده لا شريك له.
إذاً: فلا بد من الاثنين معاً، فتجريد التوحيد لله سبحانه وتعالى لا يتحقق إلا بالكفر بالطاغوت، والإيمان بالله وحده؛ ولذلك قال تعالى: ﴿فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى﴾ [البقرة: ٢٥٦]، والعروة الوثقى هي: لا إله إلا الله، وهذه أحد أسماء كلمة التوحيد، ومعناها: لا إله حق إلا الله.
فيفهم من هذه الآية الكريمة أن من لم يكفر بالطاغوت فإنه لم يتمسك بالعروة الوثقى، ومن لم يتمسك بها فهو هالك مع الهالكين.
ومعنى لا إله إلا الله أُشير إليه في كثير من المواضع في القرآن، كما في سورة الزخرف قال تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ * إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ * وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ [الزخرف: ٢٦ - ٢٨].
فعبر هنا عن كلمة التوحيد بالمعنى، ولذلك قال: ((وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ)) يعني: كلمة لا إله إلا الله.
فقوله: ((إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ)) هذا معنى: لا إله وهو كفر بالطاغوت.
وقوله: ((إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي)) هو بمعنى: إلا الله، وهو الإثبات.
وقال عز وجل: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيدًا﴾ [النساء: ٦٠] إلى قوله تعالى: ﴿فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [النساء: ٦٥]، فبيَّن الله سبحانه وتعالى حال الذين يكرهون ما أنزل الله، وبين أيضاً واجب المسلمين نحوهم في قوله عز وجل: ﴿كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ﴾ [الشورى: ١٣] أي: شق عليهم وعظم على أنفسهم.
وهذا التكبر والاستكبار والاستنكاف عن الانقياد لشرع الله نجده أوضح ما يكون في هذا الزمان، وفي العالم الجديد، وهو عند أولئك وهم الملاحدة الذين إذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوبهم، وأما إذا ذكرت لهم القوانين الدولية، وحقوق الإنسان، والقوانين الوضعية، فإنهم يستبشرون بذلك وتتهلل أساريرهم، فينطبق هذا الوصف تماماً على الملاحدة العلمانيين الزنادقة في هذا الوقت، فإنهم يكرهون ما أنزل الله، ويزهدون في أن يحرفوا الناس عن شرع الله، ﴿كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ﴾ [الشورى: ١٣].
وقال تعالى: ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ﴾ [يونس: ٧١].
وقال تعالى على لسان نوح عليه السلام: ﴿وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا﴾ [نوح: ٧]، فهذا يدل على شدة بغضهم لما يدعوهم إليه نوح عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام.
وقال تعالى: ﴿وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا﴾ [الحج: ٧٢]، وفي يوم من الأيام هاجمت أمينة سعيد العلماء الذين يطالبون بالعودة إلى شرع الله فقالت: كيف نخضع لفقهاء أربعة، ولدوا في عصر الظلام ولدينا الميثاق؟! ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ﴾ [فصلت: ٢٦]، وقال تعالى: ﴿لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ﴾ [الزخرف: ٧٨]، فهذا حالهم، وقال تعالى: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ﴾ [محمد: ٩]، ﴿فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ﴾ [الجاثية: ٦].
﴿وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ * يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ [الجاثية: ٧ - ٨]، وقال تعالى: ﴿وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ﴾ [فصلت: ٥]، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُ