تفسير قوله تعالى: (إن الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى)
قال الله عز وجل: ﴿إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ﴾ [محمد: ٢٥].
أما القراءات في هذه الآية الكريمة فقرئ قوله عز وجل: ((وَأَمْلَى لَهُمْ)).
في قراءة أخرى: (وأُملِيَ لهم)، والقراءة الثالثة: (وأُمليْ لهم).
فعلى القراءة الأولى: ((وَأَمْلَى لَهُمْ)) إما أن يكون الذي أملى لهم هو الشيطان، وإما أن الله سبحانه تعالى هو الذي أملى لهم.
والقراءة الثانية: (الشيطان سول لهم وأُملِيَ لهم) فيها نفس الاحتمالين.
والقراءة الثالثة: (الشيطان سول لهم وأُمليْ لهم) أي: أن الله سبحانه وتعالى هو الذي يملي لهم.
وقال ابن جرير: وأولى هذه القراءات بالصواب التي عليها عامة قراء الحجاز والكوفة من فتح الألف في ذلك؛ لأنها القراءة المستفيضة في قرأة الأمصار.
يعني قراءة: ((أَمْلَى لَهُمْ)).
قوله: ((إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ)) فجملة المبتدأ والخبر: ((الشَّيْطَانُ سَوَّلَ))، وهذه الجملة في محل نصب خبر إنّ.
والظاهر في قوله: ((إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى)) أنهم قوم كفروا بعد إيمانهم.
وقال بعض العلماء: هم اليهود الذين كانوا يؤمنون بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فلما بُعث وتحققوا أنه هو النبي الموصوف في كتبهم كفروا به.
إذاً: فقوله: ((إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ)) لو قلنا: إن المقصود بها اليهود لعنهم الله، فإن ارتدادهم على أدبارهم هو كفرهم به ﷺ بعد أن عرفوه وتيقنوه، وهذا هو سبب استعمال كلمة: ((ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ))، أي: رجعوا عما كانوا عليه من التصديق والإيمان بنبي يبعث صفته كذا وكذا، فلما عرفوه وتيقنوه كذبوه، كما قال تعالى: ﴿وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ﴾ [البقرة: ٨٩].
فكلمة: (فَلَمَّا جَاءَهُمْ) تشير إلى معنى قوله تعالى: ((مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى))، فهم قد عرفوه كما في قوله: ((فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا)) [البقرة: ٨٩].
وقوله تعالى: (كَفَرُوا بِهِ) يشير إليه قوله تعالى: ((ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ)).
وقال ابن عباس والضحاك والسدي: هم المنافقون قعدوا عن القتال بعد ما علموه في القرآن.
قال بعض العلماء: وهذا أولى؛ لأن السياق في المنافقين، وهذا القول في التفسير نصره شيخ المسلمين وإمامهم بلا منافس ولا منازع الإمام ابن جرير الطبري رحمه الله تعالى، فقد قال: هم أهل النفاق، وهذه الصفة بصفة أهل النفاق عندنا أشبه منها بصفة أهل الكتاب وذلك أن الله عز وجل أخبر أن ردتهم كانت لقيلهم للذين كرهوا ما نزل الله سنطيعكم في بعض الأمر، ولو كانت من صفة أهل الكتاب، لكان في وصفهم بتكذيب محمد ﷺ الكفاية من الخبر عنهم أنهم إنما ارتدوا من أجل قيلهم ما قالوا، وقد بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن سبب ارتداد هؤلاء القوم من بعد ما تبين لهم الهدى هو إغواء الشيطان لهم، كما قال تعالى مشيراً إلى علة ذلك: ((الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ)) أي: زين لهم الكفر والارتداد عن الدين.
قوله: ((وَأَمْلَى لَهُمْ)) أي: مد لهم في الأمل، ووعدهم طول العمر، وطول الأمل من أعظم أسباب الكفر وارتكاب المعاصي.
ويشهد لهذا المعنى أي أن يكون الإملاء من الشيطان قوله تبارك وتعالى: ﴿يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا﴾ [النساء: ١٢٠]، وقوله تعالى: ﴿وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا﴾ [الإسراء: ٦٤].
ويشهد: لكون هذا الإملاء والإمهال من الله عز وجل قوله تعالى: ﴿سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ﴾ [القلم: ٤٤ - ٤٥]، وقوله تعالى: ﴿وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ﴾ [آل عمران: ١٧٨]، فالله سبحانه وتعالى لا يعجزه الكفار، فهم في قبضته، وتحت سلطانه، لكنه يستدرجهم ويملي لهم، فيزدادون بذلك اغتراراً، ويتمادون في الكفر والصد عن سبيل الله، فلذلك يستحقون المزيد من العقوبة كما قال هنا: ﴿وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ﴾ [آل عمران: ١٧٨]، وقال تعالى: ﴿قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا﴾ [مريم: ٧٥] وقال تعالى: ﴿أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لا يَشْعُرُونَ﴾ [المؤمنون: ٥٥ - ٥٦] أي: إنما هو استدراج، وقد صح في هذا المعنى حديث عقبة بن عامر رضي الله تعالى عنه عن النبي ﷺ أنه قال: (إذا رأيت الله يعطي العبد من الدنيا على معاصيه ما يحب فإنما هو استدراج، ثم تلا: ((فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ)) [الأنعام: ٤٤]).
فهذا استدراج وليست هذه علامة اختيار واصطفاء كما يزعم بعض الناس، فإنهم يقولون: إن الله يحبنا؛ فقد أعطانا كذا وكذا، وهذه المقاييس تدل على على الاغترار بالله، قال تعالى: ﴿وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ﴾ [الحديد: ١٤] فهذا اغترار، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ﴾ [الانفطار: ٦]، وبعض الناس يتمادى في المعاصي ثم يقول: ربنا كريم، وربنا غفور رحيم، وغير ذلك من التعلق بنصوص الرجاء مع قطعها عن نصوص الوعيد، فتجد المرأة متمادية في التبرج والسفور ثم تقول: هذا بيني وبين ربنا، والمهم القلب، فالقلب أبيض، والقلب صافٍ، فهذا نوع من الاغترار، بل هو استدراج كما يقول هنا النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا رأيت الله يعطي العبد من الدنيا على معاصيه ما يحب فإنما هو استدراج)، فهو يتمادى في المعاصي والله يعطيه ويزيده وهذا استدراج له، فليتفطن الإنسان لذلك، (ثم تلا النبي ﷺ قوله تعالى: ((فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ)) [الأنعام: ٤٤])، من الرزق والمال والصحة والبركات والخيرات، ﴿حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً﴾ [الأنعام: ٤٤]، أي: فرحوا فرحاً لا يحبه الله، وهذا كما قال فيهم: ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ﴾ [القصص: ٧٦].
قوله: ﴿حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ﴾ [الأنعام: ٤٤]، فهذا فيه زيادة حسرة عليهم، أي: إذا أخذوا بغتة وهم في هذا الرغد.