تفسير قوله تعالى: (فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون)
قال الله تبارك وتعالى: ﴿فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ﴾ [محمد: ٣٥].
يقول ابن كثير رحمه الله تعالى: ثم قال الله لعباده المؤمنين: ((فَلا تَهِنُوا)) أي: لا تضعفوا عن الأعداء، ((وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ)) أي: المهادنة والمسالمة ووضع القتال بينكم وبين الكفار في حال قوتكم، وكثرة عددكم وعددكم.
إذاًً: فـ ابن كثير رحمه الله تعالى يذهب إلى أن موضع هذه الآية هو حال القوة، ومفهوم هذا أنه يجوز ذلك إذا كنتم في حال تسوغ لكم ذلك، والواو في قوله: ((وأنتم)) حالية، أي: في حال علوكم على عدوكم.
يقول ابن كثير: فأما إذا كان الكفار فيهم قوة وكثرة بالنسبة إلى جميع المسلمين، ورأى الإمام في المعاهدة والمهادنة مصلحة فله أن يفعل ذلك، كما فعل رسول الله ﷺ حين صده كفار قريش عن مكة، ودعوه إلى الصلح، ووضع الحرب بينهم وبينه عشر سنين، فأجابهم إلى ذلك.
انتهى كلام الحافظ ابن كثير.
وقال الإمام العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى: قرأ هذا الحرف عامة السبعة غير حمزة وشعبة عن عاصم: (إلى السَلم) بفتح السين، وأما حمزة وشعبة فقد قرأها: (إلى السِّلم) بكسر السين.
وقوله تعالى: ((فَلا تَهِنُوا)) أي: لا تضعفوا وتذلوا، ومنه قوله تعالى: ﴿فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ [آل عمران: ١٤٦]، وقوله تعالى: ﴿ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ﴾ [الأنفال: ١٨] أي: مضعف كيدهم.
وقول زهير بن أبي سلمى: وأخلفْتك ابنة البكري ما وعدتْ فأصبح الحبل منها واهناً خَلِقا أي: ضعيفاً.
وقوله تعالى: ((وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ)) جملة حالية، أي: فلا تضعفوا عن قتال الكفار حال كونكم عالين عليهم.
قوله: ((وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ)) أي: لا تبدءوا بطلب السلم، وهو الصلح والمهادنة، ((وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ)) أي: والحال أنكم أنتم الأعلون، أي: الأقهرون والأغلبون لأعدائكم، فإنكم ترجون من الله من النصر والثواب ما لا يرجون.
وهذا التفسير في قوله: ((وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ)) هو الصواب، وتدل عليه آيات من كتاب الله تعالى، كقوله تعالى بعده: ((وَاللَّهُ مَعَكُمْ))، فمن كان الله معه وهو الأعلى الغالب والقاهر والمنصور والموعود بالثواب، فهو جدير بألا يضعف عن مقاومة الكفار، ولا يبدأهم بطلب الصلح والمهادنة.
وكقوله تعالى: ﴿وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ﴾ [الصافات: ١٧٣]، وقوله تعالى: ﴿إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ﴾ [غافر: ٥١]، وقوله تعالى: ﴿وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الروم: ٤٧]، وقوله تعالى: ﴿قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ﴾ [التوبة: ١٤] * ﴿وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ﴾ [التوبة: ١٥].
ومما يوضح معنى آية القتال هذه قوله تعالى: ((وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ))، فقد فسر: الشنقيطي رحمه الله تعالى قوله تعالى: ((فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ)) بقوله: ﴿وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ﴾ [النساء: ١٠٤].
وقوله عز وجل: ((وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ)) أي: من النصر الذي وعدكم الله به، والغلبة، وجزيل الثواب؛ لأنكم مؤمنون.
وذلك كقوله هنا: ((وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ))، وقوله: ((وَاللَّهُ مَعَكُمْ)) أي: بالنصر والإعانة والثواب.
ثم يقول الشنقيطي رحمه الله: واعلم أن آية القتال هذه لا تعارض بينها وبين آية الأنفال حتى يقال: إن إحداهما ناسخة للأخرى.
أي: أن بعض العلماء ذهب إلى أن هناك تعارضاً بين هذه الآية: ((فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ))، وقوله في سورة الأنفال: ((وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا)).
فيقول الشنقيطي: ليس هناك تعارض بينهما، حتى يقال: إن إحداهما ناسخة للأخرى، بل هما محكمتان.
فكل واحدة منهما منزلة على حال غير الحال التي نزلت عليها الأخرى، فالنهي في آية القتال -أي: هنا في سورة محمد صلى الله عليه وسلم- في قوله: ((فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ)) هو نهي عن الابتداء بطلب السلم.
وأما الأمر بالجنوح إلى السلم في قوله: ((وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا)) فمحله فيما إذا ابتدأ الكفار بطلب السلم والجنوح لها كما هو صريح في قوله تعالى: ﴿وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ﴾ [الأنفال: ٦١].
يقول: وهذا الذي ذكرنا في معنى هذه الآية أولى وأصوب مما فسرها به ابن كثير رحمه الله تعالى، وهو أن المعنى: لا تدعوا إلى الصلح والمهادنة وأنتم الأعلون، أي: في حال قوتكم وقدرتكم على الجهاد.
أي: وأما إذا كنتم في ضعف وعدم قوة فلا مانع من أن تدعوا إلى السلم -أي: الصلح والمهادنة-، ومنه قول العباس بن مرداس السلمي: السلم تأخذ منها ما رضيت به والحرب تكفيك من أنفاسها جُرَعُ قوله تعالى: ((وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ))، ((وَلَنْ يَتِرَكُمْ)) أي: فلن ينقصكم شيئاً من ثواب أعمالكم، كما قال تعالى: ﴿وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا﴾ [الحجرات: ١٤]، أي: لا ينقصكم من ثوابها شيئاً، وقال تعالى: ﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ﴾ [الأنبياء: ٤٧].
وقوله هنا: ((وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ))، أصله من الوتر: وهو الفرد، فأصل قوله: ((وَلَنْ يَتِرَكُمْ)) أي: لن يفردكم ويجردكم من أعمالكم، بل يوفيكم ثوابها كاملاً.


الصفحة التالية
Icon