شبه المنحرفين في تأويل آيات إثبات المعية والرد عليهم
يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى راداً على من يئولون هذا: وأما احتجاجهم بقوله تعالى: ﴿مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ﴾ [المجادلة: ٧] فلا حجة لهم في ظاهر هذه الآية؛ لأن علماء الصحابة والتابعين الذين حُمل عنهم التأويل في القرآن قالوا في تأويل هذه الآية: هو على العرش، وعلمه في كل مكان، وما خالفهم في ذلك أحد يحتج بقوله، يعني: نحن متبعون لا مبتدعون، فلا تسموا هذا تأويلاً، إنما نحن تَبَع للسلف، فما قال السلف قلنا به.
فورد عن علماء الصحابة والتابعين أنهم قالوا في مثل هذه الآية: هو على العرش، وعلمه في كل مكان، أما ما يقوله بعض الناس: إن الله موجود في كل الوجود! فهذا حلول، وبعضهم يقول: إن الله موجود في كل مكان، فهو في كل مكان بعلمه، فلا يغيب عنه شيء من خلقه.
وأما اعتقاد أهل السنة فهو أن الله سبحانه وتعالى مباين لخلقه، منفصل عنهم لا يمتزج بهم، ولا يحل في شيء من خلقه تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.
ومن الآيات التي استدل بها المنحرفون عن عقيدة السلف في هذا: قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ﴾ [ق: ١٦].
فقالوا: هذه تدل على ذلك.
ﷺ أن هذه الآية فيها قولان للناس: أحدهما: أنه قربه بعلمه، ولهذا قرنه بعلمه بوسوسة نفس الإنسان، والدليل على هذا التفسير قوله: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ﴾ [ق: ١٦] إذاً: فهو أقرب إليه بالعلم والمراقبة والمشاهدة.
وحبل الوريد هو حبل العنق، وهو: عرق بين الحلقوم والودجين -اللذين متى قطعا مات صاحبه- وأجزاء القلب، وهذا الحبل يحجب بعضه بعضاً، وعلم الله بأسرار العبد وما في ضميره لا يحجبه شيء.
والقول الثاني: ((وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ)) أي: وملائكتنا أقرب إليه من حبل الوريد، أي: قربه من العبد بملائكته الذين يصلون إلى قلبه، فيكون بذلك أقرب إليه من ذلك العرق.
وهذا القول اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية، يقول ابن القيم: وسمعته يقول: هذا مثل قوله: ﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ﴾ [يوسف: ٣] مع أن الذي كان يقص على النبي عليه الصلاة والسلام هو جبريل عليه السلام.
وقوله تعالى: ﴿فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ﴾ [القيامة: ١٨]، فإن جبريل عليه السلام هو الذي قصه عليه بأمر الله، فنسب تعليمه إليه؛ لأنه بأمر الله، والناس الآن يقولون مثلاً: محافظ الإسكندرية بنى (الكورنيش) مع أنه لم ينبه بنفسه، ولكنه هو الذي أمر.
ويقال: فعل الأمير كذا، أو أسس كذا، وليس معناه أنه هو الذي يقوم بذلك لكن هناك أسباباً تلي ذلك، وإنما ينسب ذلك إليه لأنه تم بأمره، ولله المثل الأعلى، فكذلك هنا: ﴿فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ﴾ [القيامة: ١٨]، أي: إذا قرأه رسولنا جبريل عليه السلام فأنصت إلى قراءته، هكذا في صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير هذه الآية: فإذا قرأه رسولنا فأنصت إلى قراءته حتى يقضيها.
وإن كان أول الآية كما يقول ابن القيم يأبى ذلك؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال: ((وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ)).
قال: وكذلك خلقه للإنسان إنما هو بالأسباب وتخليق الملائكة، كما في صحيح مسلم من حديث حذيفة بن أسيد رضي الله عنه في تخليق النطفة، يقول: (فيقول الملك الذي يخلقه: يا رب! ذكر أم أنثى؟ أسوي أم غير سوي؟ فيقضي ربك ما شاء، ويكتب الملك).
إذاً: فالله سبحانه وتعالى هو الخالق وحده، ولا ينافي ذلك استعمال الملائكة بإذنه ومشيئته وقدرته في التخليق، فإن أفعالهم وتخليقهم هو خلق لله سبحانه وتعالى، فما ثَم خالق على الحقيقة غيره سبحانه وتعالى.
كما نلاحظ أن عامة الآيات التي فيها إثبات الاستواء على العرش يقترن بها إثبات صفة العلم، وهذا يدل على إحاطة الله سبحانه وتعالى؛ لعلمه بكل شيء، وهذه إشارة إلى أنه مع الخلق بعلمه وإن كان مستوٍ على العرش استواءً يليق بجلاله، فيقول الله تبارك وتعالى: ((هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ)) يعني: بعلمه، لأن التي قبلها: ﴿يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا﴾ [سبأ: ٢]، ثم قال: ((وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ))، يعني: بعلمه تبارك وتعالى.


الصفحة التالية
Icon