كلام ابن تيمية رحمه الله في المعية الواردة في الآيات
يقول ابن تيمية رحمه الله تعالى: لفظ المعية في سورة الحديد والمجادلة في آيتيهما ثبت تفسيره عن السلف بالعلم، قالوا: هو معهم بعلمه.
وقد ذكر الإمام ابن عبد البر وغيره: أن هذا إجماع من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، ولم يخالفهم أحد يعتد بقوله، وهو مأثور عن ابن عباس والضحاك ومقاتل بن حيان وسفيان الثوري وأحمد بن حنبل وغيرهم، قال ابن أبي حاتم عن ابن عباس في هذه الآية: هو على العرش وعلمه معهم، وهكذا عمن ذكر معه.
وقد بسط الإمام أحمد الكلام على المعية في (الرد على الجهمية).
ولفظ المعية جاء في كتاب الله عاماً كما في هاتين الآيتين -يعني: آية الحديد وهي قوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ [الحديد: ٤]، وآية المجادلة التي قوله: ((مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ))، إلى آخر الآية-، وجاء خاصاً كما في قوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ﴾ [النحل: ١٢٨]، وقوله: ﴿قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى﴾ [طه: ٤٦]، وقوله: ((لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا)).
فلو كان المراد: بذاته مع كل شيء إذاً لم يبق له مزية، يعني: إذا كانت المعية بالذات مع كل المخلوقات فلا تكون فيه مواساة كما في قوله تعالى: ﴿إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا﴾ [التوبة: ٤٠]، فسيرد عليه أبو بكر بقوله: وهو أيضاً مع غيرنا كما هو معنا!! فلا يستقيم معنى ذلك إلا بحمل الآية على المعية الخاصة، أي: بالنصر والتأييد.
يقول ابن تيمية: فلو كان المراد بذاته مع كل شيء لكان التعميم يناقض التخصيص، فإنه قد علم أن قوله: ((لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا)) أراد به تخصيصه وأبا بكر دون عدوهم من الكفار.
وكذلك قوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ﴾ [النحل: ١٢٨]، فخصهم بذلك دون الظالمين والفجار، وأيضاً فلفظ المعية ليست في لغة العرب، ولا في شيء من القرآن أن يراد بها اختلاط إحدى الذاتين بالأخرى.
وكلمة (المعية) في لغة العرب وفي القرآن الكريم لا تقتضي الامتزاج، فإنك تقول: سرت مع القمر، مع أنك لم تمتزج بالقمر، وإنما تمشي مسايراً، وترسل لابنك في أطراف الأرض رسالة وتقول له: أنا معك، مع أن ذلك لا يدل على الامتزاج.
فلا يراد بالمعية اختلاط إحدى الذاتين بالأخرى، كما في قول الله عز وجل: ﴿مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ﴾ [الفتح: ٢٩]، فلا يفهم من ذلك أنهم امتزجوا معه.
وقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ﴾ [التوبة: ١١٩]، وقال: ﴿وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ﴾ [الأنفال: ٧٥]، ومثل هذا كثير.
فامتنع أن يكون قوله: ((وَهُوَ مَعَكُمْ)) يدل على أن ذاته مختلطة بذوات الخلق، فإنه افتتح الآية بالعلم، وختمها بالعلم، فكان السياق يدل على أنه أراد أنه عالم بهم.
إذاً: فلفظ المعية في اللغة وإن اقتضى المجامعة والمصاحبة والمقارنة والمقاربة، فهو إذا كان مع العباد لم يناف ذلك علوه على عرشه، ويكون حكم معيته في كل موطن بحسبه، فالمعية العامة تعني إن الله مع الخلق كلهم بالعلم والقدرة والسلطان، والمعية الخاصة خُصَّ بعض الخلق بها، ففي هذه الحالة نفهم المعية على أنها معية بالإعانة والنصر والتأييد والتثبيت.
وقال الإمام موفق الدين ابن قدامة المقدسي رضي الله عنه في كتاب (ذم التأويل): فإن قيل: قد تأولتم آيات وأخباراً.
أي: أن الأشاعرة وغيرهم يهاجمون أهل السنة والسلفيين ويقولون لهم: أنتم تحرمون علينا التأويل وتبيحونه لأنفسكم، فها أنتم الآن تئولون هذه الآيات ((وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ)) وتقولون يعني: معكم بعلمه.
فإن قيل: قد تأولتم آيات وأخباراً، فقلتم في قوله تعالى: ((وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ)) أي: بالعلم، ونحو هذا من الآيات والأخبار، فيلزمكم ما يلزمنا.
قلنا: نحن لم نتأول شيئاً، وحمل هذه الأخبار على هذه المعاني ليس بتأويل؛ لأن التأويل صرف اللفظ عن ظاهره، وهذه المعاني هي الظاهر من هذه الألفاظ، بدليل أنه المتبادر إلى الأذهان منها، وظاهر اللفظ هو ما يسبق إلى الفهم منه.
فالمتبادر إلى الفهم من قولك: إن الله معك، يعني: بالحفظ والكلاءة، ولذلك قال تعالى فيما أخبر عن نبيه صلى الله عليه وسلم: ﴿إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا﴾ [التوبة: ٤٠]، وقال لموسى: ((إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى))، ولو أراد أنه بذاته مع كل أحد لم يكن لهم بذلك اختصاص؛ لوجوده في حق غيرهم كوجوده فيهم، ولم يكن ذلك موجباً لنفي الحزن عن أبي بكر ولا علة له، فعلم أن ظاهر هذه الألفاظ هو ما حملت عليه ولم يكن تأويلاً، وإنما هو المعنى الراجح من ظاهر الألفاظ، فيحمل في كل موطن على ما يليق به.
ثم لو كان تأويلاً فما نحن تأولناه، وإنما السلف رحمة الله عليهم الذين ثبت ثوابهم، ووجب اتباعهم هم الذين تأولوا، فإن ابن عباس والضحاك ومالكاً وسفيان وكثيراً من العلماء قالوا في قوله: ((وَهُوَ مَعَكُمْ)): أي: علمه، ثم قد ثبت في كتاب الله والمتواتر عن رسول الله ﷺ وإجماع السلف أن الله تعالى في السماء على عرشه.
وجاءت هذه اللفظة مع قرائن محفوفة بها دالة على إرادة العلم منها، وهو قوله: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ﴾ [المجادلة: ٧]، ثم قال في آخر الآية: ﴿إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ [المجادلة: ٧]، فبدأها بالعلم وختمها به، وسياقها هو لتخويفهم بعلم الله سبحانه وتعالى بحالهم، وأنه ينبئهم بما عملوا يوم القيامة ويجازيهم عليها، وهذه القرائن كلها دالة على إرادة العلم، فقد اتفقت فيها هذه القرائن، ودلالة الأخبار على معناها، ومقالة السلف وتأويلهم، فكيف يلحق بها ما يخالف الكتاب والأخبار ومقالات السلف؟! وحكى ابن عبد البر كما ذكرنا الاتفاق عليه، ودلت الأخبار أيضاً والقرائن في الآيات على هذا المعنى، فكيف تلحقون بما هذا شأنه ما يخالف الكتاب والأخبار ومقالات السلف؟ فهذا لا يخفى على عاقل إن شاء الله تعالى، وإن خفي فقد كشفناه وبيناه بحمد الله تعالى.
ومع هذا لو سكت إنسان عن تفسيرها وتأويلها لم يحرَّج ولم يلزمه شيء، فإنه لا يلزم أحداً الكلام في التأويل إن شاء الله تعالى.


الصفحة التالية
Icon