العبرة بالخواتيم والأدلة على ذلك
قال الله تبارك وتعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ﴾ [محمد: ٣٤].
هذه الآية الكريمة سبق أن تعرضنا لصدرها ((إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ))، وذكرنا أن الراجح في الصدّ أنه متعدٍّ، ((إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا)) أي: في أنفسهم، ((وَصَدُّوا)) أي: غيرهم ((عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ))، وهذا يرجح على قول من قال: إن ((وَصَدُّوا)) بمعنى: أعرضوا اللازمة؛ لأنا إذا قلنا: إن صدوا هنا بمعنى: أعرضوا عن سبيل الله، فسيكون هذا توكيداً، وأما إذا قلنا: إن المعنى: أنهم صدوا غيرهم ((عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ))، فسيكون تأسيساً، ولا شك أن التأسيس مقدَّم على التوكيد؛ لأنه يبني معنىً جديداً.
قوله: ((إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ)) فيه بيان لافتراض الخاتمة، وأن الأعمال بالخواتيم، فالعبرة بالحال التي يموت عليها الإنسان، كما قال صلى الله عيه وسلم: (إنما الأعمال بالخواتيم)، فلو صام رجل يوماً طويلاً شديداً حره، ثم أفطر قبيل غروب الشمس بثوانٍ معدودات فقد حبط صيام هذا اليوم كله، وإذا صلى صلاة طويلة ثم أحدث قبل السلام، فصلاته باطلة كلها.
وكذلك العمر، فإذا وفِّق الإنسان إلى خاتمة حسنة فإن الله سبحانه وتعالى يعفو عن كل ما مضى، والعكس أيضاً.
إذاً: فهذه الآية الكريمة فيها بيان أن الوفاة على الكفر توجب الخلود في النار، فمجرد أن يكون الإنسان كافراً لا يكفي للحكم عليه بعينه أنه من أهل النار، وإنما لا بد من أن يثبت أنه قد مات على الكفر، قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ﴾، وهذا يشير إلى قوله تبارك وتعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ﴾ [البروج: ١٠]، فانظر إلى رحمه الله تعالى، فحتى هؤلاء الذين كفروا في أنفسهم، وفتنوا وعذبوا المؤمنين بالنيران في قصة الأخدود الشهيرة، اشترط الله في استحقاقهم هذا الوعيد أن يثبتوا على ذلك حتى الممات، فقال: ((إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا))، فمفهومها أنهم إن تابوا فإن الله سبحانه وتعالى يغفر لهم، فهذا من رحمة الله الواسعة.
وقد قيل: إن المراد بالآية أصحاب قليب بدر، وظاهر الآية العموم في كل من مات على الكفر وإن كان سببها خاصاً.
وقد وضح هذه الآية آيات أخرى من كتاب الله تعالى، ومنها: قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ﴾ [آل عمران: ٩١]، فانظر إلى قوله: ((إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ)) ففيها إشارة إلى الخاتمة.
وروى الشيخان عن قتادة عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال: (يجاء بالكافر يوم القيامة فيقال له: أرأيت لو كان لك ملء الأرض ذهباً أكنت تفتدي به؟ فيقول: نعم، فيقال له: قد كنت سئلت ما هو أيسر من ذلك)، كلفتك أن تعبدني ولا تشرك بي شيئاً وهذا لفظ البخاري.
وقال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ * خَالِدِينَ فِيهَا لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنظَرُونَ﴾ [البقرة: ١٦١ - ١٦٢].
قوله تعالى: ((إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ))، الواو في قوله: ((وَهُمْ كُفَّارٌ))، هي واو الحال، أي: ماتوا على حال الكفر.
وقال الله تعالى: ﴿وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا﴾ [النساء: ١٨].
وقال تعالى: ﴿وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ [البقرة: ٢١٧].