عدم دلالة قوله تعالى: (وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه) على وقوع المعاصي من الأنبياء
واحتجوا كذلك بقوله تعالى في حق النبي عليه السلام: ﴿وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ﴾ [الأحزاب: ٣٧] قال العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى: قد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك أن من أنواع البيان التي تضمنها بيان الإجمال الواقع بسبب الإبهام في صلة موصول، ومن أمثلة ذلك هذه الآية: ((وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ))، (ما) مجملة يعني: الذي أبداه الله، فأبهم الله سبحانه وتعالى هذا الذي أخفاه ﷺ في نفسه وأبداه الله، ولكنه أشار إلى أن المراد به زواجه ﷺ زينب بنت جحش رضي الله تعالى عنها حيث أوحى إليه ذلك، وهي في ذلك الوقت تحت زيد بن حارثة رضي الله عنه؛ لأن زواجه إياها هو الذي أبداه الله بقوله: ((فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا)).
هذا هو التحقيق في معنى الآية الذي دل عليه القرآن، وهو اللائق بجنابه صلى الله عليه وسلم، أما ما تزخر به كتب الجهلة والمستشرقين من الطعن في النبي عليه الصلاة والسلام بكلام سخيف لا يصدر إلا من الكذابين، أنه ذهب -أستغفر الله- الرسول يزور زيد بن حارثة فتحرك الستر من على الباب فرأى بنت عمته زينب بنت جحش، فرآها جميلة، فقال: سبحان مقلب القلوب ثم عشقها، وأمر زيد بن حارثة أن يطلقها ليتزوجها! فهذا من كذبهم وافترائهم وعدوانهم على مقام النبي صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، وهم يستدلون بقوله: ﴿وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ﴾ وهنا نلاحظ أن الله سبحانه وتعالى تكفل بأن يبدي هذا الشيء الذي أخفاه الرسول عليه السلام في نفسه، فهل فيما أبداه الله وفيما أوحاه الله للنبي عليه السلام أنه عشق بنت عمته؟ وكيف وهو لم يرها من قبل؟ وأنه أول ما رآها قال: سبحان مقلب القلوب إلى آخر هذا الكلام الظالم المعتدي المفترى؛ فلما تأملنا الذي أبداه الله رأينا التفاصيل التي نذكرها، ولم نجد فيه أنه عشقها وكتم ذلك في نفسه، فدل على كذب هذا؛ لأنه لو كان مما أخفاه في نفسه لكان الله سبحانه وتعالى قد أبداه.
يقول العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى: فإنه قد أبهم هذا الذي أخفاه ﷺ في نفسه وأبداه الله، ولكنه أشار إلى أن المراد به زواجه ﷺ زينب بنت جحش رضي الله تعالى عنها، حيث أوحى إليه ذلك، وهي في ذلك الوقت تحت زيد بن حارثة، فزواجه إياها هو الذي أبداه الله بقوله: ((فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا))، فمن الذي تولى عقد زواج زينب بنت جحش؟ الله سبحانه وتعالى! ولذلك كانت زينب بنت جحش تفاخر سائر أزواج النبي عليه الصلاة والسلام وتقول: زوجكن أهاليكن وزوجني ربي من فوق سبع سماوات؛ لأن نون الضمير هنا في (زوجناكها) نون العظمة.
فهذا هو اللائق بجناب النبي صلى الله عليه وسلم.
وعليه فاعلم أن ما يقوله كثير من المفسرين من أن ما أخفاه ﷺ وأبداه الله وقوع محبة زينب في قلبه، ومحبته لها وهي تحت زيد، وأنها سمعته يقول: سبحان مقلب القلوب إلى آخر القصة؛ فهذا كله لا صحة له، والدليل عليه أن الله لم يبد من ذلك شيئاً مع أنه صرح بأنه مبدي ما أخفاه النبي صلى الله عليه وسلم.
قال القرطبي رحمه الله تعالى: واختلف الناس في تأويل هذه الآية، فذهب قتادة بن دعامة وابن زيد وجماعة من المفسرين منهم الطبري وغيره: إلى أن النبي ﷺ وقع منه استحسان زينب بنت جحش وهي في عصمة زيد، وكان حريصاً على أن يطلقها زيد فيتزوجها هو، إلى أن قال: وهذا الذي كان يخفي في نفسه، ولكنه لزم ما يجب من الأمر بالمعروف، يعني في قوله: ﴿أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ﴾ [الأحزاب: ٣٧]؛ لأنها كانت تترفع عليه، ويحصل منها خصومات، فكان يذهب يشتكي للرسول عليه الصلاة والسلام فيقول له: ((أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ))، ولا شك أن هذا القول غير صحيح، وأنه غير لائق بجناب النبي صلى الله عليه وسلم.
ونقل القرطبي أن الله أوحى إلى نبيه ﷺ أن زيداً سيطلق زينب، وأن الله يزوجها رسوله صلى الله عليه وسلم، وبعد أن علم هذا بالوحي قال لـ زيد: ((أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ))، مع أنه كان يعلم بالوحي أنه سيطلقها، وأن الرسول هو الذي سوف يتزوجها لحكمة عظيمة كما سنبين إن شاء الله تعالى.
فبعد أن علم هذا بالوحي قال لـ زيد: ((أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ)) فالعتاب على كلمة: ((أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ))، وأن الذي أخفاه في نفسه هو أن الله سيزوجه زينب رضي الله عنها.
ثم قال القرطبي بعد أن ذكر هذا القول: قال علماؤنا رحمة الله عليهم: هذا القول أحسن ما قيل في تأويل هذه الآية، وهو الذي عليه أهل التحقيق من المفسرين والعلماء الراسخين كـ الزهري والقاضي بكر بن العلاء القشيري والقاضي أبي بكر بن العربي وغيرهم إلى أن قال: فأما ما روي أن النبي ﷺ هوى زينب امرأة زيد، وربما أطلق بعض المجان لفظ العشق، فهذا إنما يصدر عن جاهل بعصمة النبي ﷺ بمثل هذا أو مستخف بحرمته صلى الله عليه وسلم.
قال ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية: ذكر ابن أبي حاتم وابن جرير هاهنا آثاراً عن بعض السلف رضي الله عنهم أحببنا أن نضرب عنها صفحاً لعدم صحتها فلا نوردها إلى آخر كلامه.
قال الشنقيطي رحمه الله تعالى: والتحقيق إن شاء الله في هذه المسألة هو ما ذكرنا أن القرآن دل عليه؛ وهو أن الله أعلم نبيه ﷺ بأن زيداً يطلق زينب، وأن الله يزوجها إياه صلى الله عليه وسلم، وهي في ذلك الوقت تحت زيد، فلما شكاها زيد إليه ﷺ قال له: ((أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ)) فعاتبه الله على قوله: ((أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ)) بعد علمه أنها ستصير زوجته صلى الله عليه وسلم، وخشي مقالة الناس لو أظهر ما علم من تزويجه إياها أن يقولوا: يريد تزوج زوجة ابنه -بالتبني- في الوقت الذي هي فيه في عصمة زيد.
يقول تعالى: ﴿وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ﴾ [الأحزاب: ٣٧]، كلما كان يأتي يشتكي له يقول: ((أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ))، مع أنه قد نزل عليه الوحي يخبره أنه سيطلقها، وأن الله سيجوز الرسول عليه الصلاة والسلام من زينب رضي الله تعالى عنها، فهذا هو الذي عاتبه الله تعالى عليه، أنه كان يقول: ((أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ)) مع أنه يعلم أنه سيطلقها وأنه سيتزوجها عليها الصلاة والسلام.
((وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ)) خشي مقالة الناس لو قال لهم ما أوحاه الله إليه من أنه سوف يطلقها وسوف يزوجها إياه، فالناس سيقولون: إنه يريد التزوج من زوجة ابنه في الوقت الذي هي مازالت في عصمة زيد، والدليل على هذا أمران: الأول: ما قدمنا أن الله عز وجل قال: ((وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ))، وهذا الذي أبداه الله جل وعلا هو زواجه إياها في قوله: ((فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا))، ولم يبد جل وعلا شيئاً مما زعموه أنه أحبها، ولو كان ذلك هو المراد لأبداه الله تعالى كما ترى.
الأمر الثاني: أن الله جل وعلا صرح بأنه هو الذي زوجه إياها: ((زَوَّجْنَاكَهَا))، وأن الحكمة الإلهية في ذلك التزويج هي قطع تحريم أزواج الأدعياء، في قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا﴾، فقوله تعالى: ((لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ)) تعليل صريح لتزويجه إياها فيما ذكرنا، وكون الله هو الذي زوجه إياها لهذه الحكمة العظيمة صريح في أن سبب زواجه إياها ليس هو محبته لها التي كانت سبباً في طلاق زيد كما زعموا، ويوضح هذا قوله تعالى: ((فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا))؛ لأن الآية تدل على أن زيداً قضى وطره منها، ولم تبق له بها حاجة، فمعناه أنه طلقها باختياره المحض، ولم يبق له عندها حاجة فطلقها، فإنما طلقها باختياره، والله تبارك وتعالى أعلم.
قال النحاس: قال بعض العلماء: ليس هذا من النبي ﷺ خطيئة، ألا ترى أنه لم يؤمر بالتوبة ولا بالاستغفار منه، وقد يكون الشيء ليس بخطيئة إلا أن غيره أحسن منه، وهو أنه أخفى ذلك في نفسه.