عصمة الأنبياء
قول الله تبارك وتعالى: ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ﴾ [آل عمران: ١٢٨]، واجتهاده في إيمان عمه، فقد كان حريصاً جداً أشد الحرص على إيمان عمه حتى قال الله له: ﴿إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاء﴾ [القصص: ٥٦] ونحو ذلك، فتحمل الآية: ((لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ)) على معنى الوزر اللغوي، ﴿وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ﴾ [الشرح: ٢] يعني: الثقل الذي كنت تتحمله من أعباء الدعوة، وتبليغ الرسالة، كما جاء في قوله صلى الله عليه وسلم: (لما كان ليلة أسري بي فأصبحت بمكة فظعت وعرفت أن الناس مكذبي)، يعني الناس سوف يكذبوني، وكيف يصدقون خبر الإسراء؟! قال: (فقعدت معتزلاً حزيناً فمر بي أبو جهل، فجاء حتى جلس إليه ﷺ فقال له كالمستهزئ: هل كان من شيء؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم، وقص عليه الإسراء) ففيه التصريح بأنه فظع، والفظاعة هنا: ثقل وحزن، فلا شك أن الحزن ثقل، ولا شك أن توقع تكذيب قومه إياه أثقل على نفسه من كل شيء، فهذا الثقل هو المقصود من قوله: ﴿وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ﴾ [الشرح: ٢] أي: رفعنا عنك هذا العبء وهذا الثقل.
ومن ضمن الآيات التي فيها ذكر الاستغفار أو الإشارة إلى ذنب قوله تعالى: ﴿إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ﴾ [النصر: ١] إلى قوله: ﴿وَاسْتَغْفِرْهُ﴾ [النصر: ٣]، قال البعض: إن الاستغفار إنما يكون عن ذنب فما هو هذا الذنب؟ وتقدمت الإشارة بإيجاز عن عصمة الأنبياء عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام، ولا شك أن التوبة دعوة الرسل، ولو بدأنا من قصة آدم عليه السلام قال تعالى: ﴿فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ﴾ [البقرة: ٣٧]، ومعلوم موجب تلك التوبة، وهو ما وقع من آدم عليه السلام، ثم نوح عليه السلام قال: ﴿رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ﴾ [نوح: ٢٨]، وإبراهيم عليه السلام قال: ﴿وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾ [البقرة: ١٢٨]، وقال أيضاً: ﴿رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ﴾ [إبراهيم: ٤١] فبناء على هذا قال بعض العلماء: إن الاستغفار نفسه عبادة كالتسبيح، يعني: التوبة هي دعوة الأنبياء، فحتى الاستغفار نفسه هو عبادة في حد ذاته كالتسبيح، ولا يلزم من الاستغفار وجود ذنب.
وقيل: ((وَاسْتَغْفِرْهُ)) هذا تعليم لأمته صلى الله عليه وآله وسلم.
وقيل: ((وَاسْتَغْفِرْهُ)) هذا تكريم له ورفع لدرجاته صلى الله عليه وسلم.
وقد قال صلى الله عليه وسلم: (توبوا إلى الله، فإني أتوب إلى الله في اليوم مائة مرة)، فيكون الاستغفار والتوبة عبارة عن الاستكثار من الخير والإنابة إلى الله سبحانه وتعالى.
وحاصل كلام الأصوليين في مسألة عصمة الأنبياء أو ما قاله العلماء في هذه المسألة هو: عصمة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ثابتة من الكفر، وفي كل ما يتعلق بالتبليغ، ومن الكبائر وصغائر الخسة كسرقة لقمة أو تطفيف حبة، فهذه أشياء متفق عليها بين الأصوليين، ولا شك أن كل الأنبياء معصومون من الكفر، وليس في هذا جدال، والحوار الذي قصه الله علينا في سورة الأنعام: ﴿وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ﴾ [الأنعام: ٧٥] إلى آخر الآيات، إبراهيم عليه الصلاة والسلام كان مناظراً ولم يكن ناظراً، وناظراً معناه: مفكراً لنفسه، يبحث عن الحق والتوحيد، فلما رأى الشمس قال: هذا ربي، وقال: هذا القمر أو هذا الكوكب ربي لا، هذا لا يمكن أبداً، فإبراهيم عليه السلام نبي، وإبراهيم معصوم مما هو أدنى من هذا بكثير، فكيف يوصف إبراهيم -والعياذ بالله- بالشرك والحيرة في أمر الله؟! هذا مستحيل! وإنما كان يناظر قومه ويستدرجهم حتى يصل بهم في النهاية إلى الإقرار بالتوحيد، كنوع من الإلزام في أسلوب الحوار، لكن لا يمكن أن يكون إبراهيم عليه السلام ناظراً لنفسه، فإن الأنبياء قطعاً معصومون من الشرك.
إذاًَ: الأصوليون يتفقون على عصمة الأنبياء عليهم وعلى نبينا عليه الصلاة والسلام من الكفر، وعن كل ما يتعلق بالتبليغ، فكل ما يتعلق بتبليغ الرسالة هم معصومون فيه، ومعصومون من الكبائر، ومعصومون من صغائر الخسة، وصغائر الخسة هي التي تدل على دناءة النفس وخستها، كسرقة لقمة أو تطفيف حبة عند الميزان مثلاً، فالحرص على هذه من صغائر الخسة، وتدل على دناءة النفس، فلا شك أن الأنبياء عليهم السلام معصومون من ذلك، وأكثر أهل الأصول على جواز وقوع الصغائر -غير صغائر الخسة- منهم، ولكن جماعة كثيرة من متأخري الأصوليين اختاروا أن ذلك -وإن جاز عقلاً- لم يقع فعلاً، وقالوا: ما جاء في الكتاب والسنة من ذلك إنما فعلوه بتأويل أو نسيان أو سهو أو نحو ذلك.