عدم دلالة أول سورة عبس على وقوع المعاصي من الأنبياء
أما قوله تعالى: ﴿عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى﴾ [عبس: ١ - ٢] إلى آخره، فبعض الناس يستدل بهذا على وقوع المعصية من الأنبياء، حتى إن الله عاتب النبي عليه الصلاة والسلام، فقال ابن حزم رحمه الله: فإنه كان عليه السلام قد جلس إليه عظيم من عظماء قريش، ورجا إسلامه، وعلم ﷺ أنه لو أسلم لأسلم بإسلامه ناس كثير، وأظهر الدين، وعلم أن هذا الأعمى الذي يسأله عن أشياء من أمور الدين لا يفوته وهو حاضر معه، يعني: الرسول ﷺ اجتهد فرأى أن جواب هذا الأعمى ابن أم مكتوم لا يفوت، فهو موجود معه، فممكن أن يؤجل الإجابة قليلاً حتى يستدرك بعد ذلك، بخلاف ما لو فاته دعوة هذا الرجل وإسلامه، فاشتغل عنه ﷺ لِما خاف فوته من عظيم الخير مما لا يخاف فوته، وهذا غاية النظر للدين، والاجتهاد في نصرة القرآن في ظاهر الأمر، ونهاية التقرب إلى الله الذي لو فعله اليوم منا فاعل لأجر، فلو واحد منا في هذا العصر فعل ذلك الفعل لحمد على ذلك حمداً عظيماً، لكن في هذه المسألة بالذات اجتهاد النبي عليه السلام ونظره لمصلحة الدعوة رغم ما فيه من المعاني العظيمة لم توافق رضا الله سبحانه وتعالى، يقول: وهذا غاية النظر للدين، والاجتهاد في نصرة القرآن في ظاهر الأمر، ونهاية التقرب إلى الله الذي لو فعله اليوم منا فاعل لأجر، فعاتبه الله عز وجل على ذلك، إذ كان الأولى عند الله أن يقبل على ذلك الأعمى الفاضل البر التقي، وهذا نفس ما قلناه.
وكما سها ﷺ من اثنتين ومن ثلاث، وقام من اثنتين، ولا سبيل إلى أنه يفعل من ذلك شيئاً تعمداً أصلاً يعني: الرسول ﷺ سها من اثنتين ومن ثلاث في الصلاة، فهذا يعني من نفس الباب.
قال القرطبي: قال علماؤنا: ما فعله ابن أم مكتوم كان من سوء الأدب، ولكنه لم يكن عالماً بأن النبي عليه الصلاة والسلام مشغول بغيره.
يحتمل أن ابن أم مكتوم لم يحس بذلك؛ لأنه لم يكن يرى أن الرسول عليه الصلاة والسلام مشغول بغيره، وأنه يرجو إسلام هؤلاء، ولكن الله تبارك وتعالى عاتب النبي ﷺ حتى لا تنكسر قلوب أهل الصفة، أو ليعلم أن المؤمن الفقير خير من الغني، وكان النظر إلى المؤمن أولى، وهو أصلح وأولى من الأمر الآخر، وهو الإقبال على الأغنياء طمعاً في إيمانهم، وإن كان ذلك أيضاً نوع من المصلحة، وعلى هذا يكون قوله تعالى: ﴿مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ﴾ [الأنفال: ٦٧].
وقيل: إنما قصد النبي ﷺ تأليف الرجل ثقة بما كان في قلب ابن أم مكتوم من الإيمان، كما قال في الحديث: (إني لأصل الرجل -يعني: أعطيه- وغيره أحب إلي منه مخافة أن يكبه الله في النار على وجهه)، كذلك أنزل الله سبحانه وتعالى في حق ابن أم مكتوم على نبيه صلى الله عليه وسلم: ﴿عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى﴾ [عبس: ١ - ٢]، وتأملوا أيضاً غاية الرق والحب والتعظيم من الله سبحانه وتعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لم يقل له: عبست وتوليت، بصيغة الخطاب، لكن ترفقاً بالنبي عليه الصلاة والسلام، وشفقة عليه، قال تبارك وتعالى: ﴿عَبَسَ وَتَوَلَّى﴾ [عبس: ١] بلفظ الخبر عن الغائب تعظيماً له صلى الله عليه وسلم، ولم يقل: عبست وتوليت، ثم أقبل عليه بمواجهة الخطاب تأليفاً له؛ لأن الاستمرار بخطابه بصيغة الغائب فيها إعراض، فقال: ﴿عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى﴾ [عبس: ١ - ٢]، ثم التفت إليه تأليفاً له حتى لا يستوحش من صيغة الغائب، قال له: ﴿وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى﴾ [عبس: ٣] تأليفاً للنبي صلى الله عليه وسلم، وما يدريك: يعني: ما يعلمك لعله يزكى؟ يعني: بما استدعى منك تعليمه إياه من القرآن والدين؛ بأن يزداد طهارة في دينه، وزوال ظلمة الجهل عنه.
وقيل: الضمير في (لعل) للكافر يعني: إنك إذا طمعت في أن يتزكى بالإسلام أو يذكر فتقربه الذكرى إلى قبول الحق، وما يدريك أن ما طمعت فيه كائن؟ هذا تفسير آخر، يعني: وما أعلمك أن هناك أملاً في هذا الكافر أنه سوف يتزكى إذا التفت إليه وانصرفت عن الأعمال.
يقول الشنقيطي رحمه الله تعالى: عبر تعالى عن هذا الصحابي الجليل الذي هو عبد الله بن أم مكتوم رضي الله تعالى عنه بلقب يكرهه الناس، مع أنه تعالى قال: ﴿وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ﴾ [الحجرات: ١١] والجواب ما نبه عليه بعض العلماء من أن السر في التعبير عنه بلفظ الأعمى للإشعار بعذره في الإقدام على قطع كلام الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لو كان يرى ما هو مشتغل به مع صناديد الكفار لما قطع كلامه.
فهذا هو السر الذي وصفه الله تعالى لأجله؛ لأنه متى ما كان هناك مندوحة وسعة في أن تعبر عن أخيك المسلم إذا أردت تعريفه بصفة لا ذم فيها تعين عليك ذلك، ولا يجوز أن تذكره بصفة يكرهها كالأعرج أو الأعمى أو كذا أو كذا من الصفات، إلا إذا لم تجد وسيلة لتعريفه إلا هذه الوسيلة، ويجب ألا تقصد بذلك التنقص أو السخرية أو الازدراء.
والله سبحانه وتعالى -مع أنه قال: ﴿وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ﴾ [الحجرات: ١١]- استعمل هنا لفظ الأعمى، فقال: ﴿أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى﴾، حتى يفهم قارئ القرآن أو مستمع القرآن أن هذا الرجل الصحابي الجليل رضي الله تعالى عنه لم يكن سيئ الأدب، بحيث إنه أقدم على قطع كلام الرسول عليه الصلاة والسلام وهو يراه يخاطب غيره، وإنما كان معذوراً بسبب هذا العمى؛ لأنه لم يبصر الرسول ﷺ وهو يخاطب غيره، فمن ثم أقدم على المقاطعة في قطع كلامه وسؤاله عما سأل من أمر الدين.
وقال الفخر الرازي: إنه وإن كان أعمى لا يرى فإنه يسمع، وبسماعه حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وإقدامه على مقاطعته يكون مرتكباً معصية، فكيف يعاتب عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، والظاهر -والله تعالى أعلم- أنه إنما عاتبه لعدم رفقه به، ومراعاة حال عماه، فعليه يكون ذكره بهذا الوصف من باب التعريض بغيره من أولئك الصناديد وسادة القوم، وكأنه يقول لهم: ﴿فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾ [الحج: ٤٦]، يعني: أنه وصف بكونه (الأعمى)، والمقصود أنه في الحقيقة ليس أعمى؛ لأنه مبصر بقلبه بنور الإيمان، أما الأعمى الحقيقي فهو أنتم أيها الكفار كما قال الله: ﴿فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾ فعليه: يكون ذكره بهذا الوصف من باب التعريض بغيره من أولئك الصناديد وسادة القوم، وكأنه يقول لهم: ﴿فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾، فهذا كفيف البصر، ولكن وقاد البصيرة أبصر الحق وآمن، وجاء مع عماه يسعى طلباً للمزيد، وأنتم تغلقت قلوبكم، وعميت بصائركم، فلم تدركوا الحقيقة، ولم تبصروا نور الإيمان، كما في الآية الكريمة: ﴿فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾.
وسورة عبس فيها كثير من آداب طالب العلم كما تلاحظون قال تعالى: ﴿عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى﴾ [عبس: ١ - ٢] يعني: أن طالب العلم هو الذي سعى إلى الشيخ وإلى من يتعلم منه؛ لأن الآية بعدها: ﴿وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى * وَهُوَ يَخْشَى﴾ [عبس: ٨ - ٩] هذا من شدة حرصه على طلب العلم.
وقد حث الله سبحانه وتعالى النبي عليه الصلاة والسلام على الصبر مع المؤمنين فقال تعالى: ﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ﴾ [الكهف: ٢٨] إلى آخر الآية، فمن ثم عاتبه لما أعرض عن الأعمى.
وقال عز وجل: ﴿وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ﴾ [الأنعام: ٥٢] من رزقهم من شيء، ﴿وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ [الأنعام: ٥٢]، ثم قال بعد ذلك: ﴿وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ﴾ [الأنعام: ٥٤] إلى آخر الآية.
وقال نوح عليه السلام لما قال له قومه: ﴿مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ﴾ [هود: ٢٧]، يعيرون نوحاً عليه السلام بأن أتباعه هم الضعفاء والفقراء، يعني: من ضمن الأشياء التي نفرتهم من الحق أن قالوا: ﴿مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا﴾، الفقراء والمساكين ﴿بَادِيَ الرَّأْيِ﴾ يعني: مجرد أن دعوتهم اتبعوك، وهذا ليس عيباً في الإنسان أبداً، بل الإنسان يمدح للانقياد إلى الحق بمجرد ظهوره، فإذا ظهر الحق فالإنسان لا عذر له في التأخير للانقياد له، بل يمدح الإنسان بانقياد له كما مدح سحرة فرعون، حيث آمنوا في لحظات! قال فرعون: ﴿قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ﴾ [طه: ٧١] فمدحوا في القرآن الكريم بسبب أنهم عندما ظهر لهم الحق انقادوا في الحال، ولم يؤخروا الانقياد، فيا عجباً ممن يتضح له حكم الشرع في كثير من القضايا فلا ينقاد! كالمرأة المتبرجة