تفسير قوله تعالى: (إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً)
قال الله تبارك تعالى: ﴿إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا﴾ [الفتح: ٨].
قوله: ((إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا)) الشهادة: قول صادر عن علم حصل بمشاهدة بصيرة أو بصر، ومن غايات بعثة النبي ﷺ أن يكون شاهداً، وقد جاءت آيات كثيرة تبين بعض ما يتعلق بمنصب الشهادة سواء كان في الدنيا أم في الآخرة، منها: قول الله تبارك وتعالى: ﴿فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا﴾ [النساء: ٤١] فهذه الآية الكريمة من سورة النساء تبين أن كل أمة يأتي شاهد ليشهد عليها، ألا وهو رسولها، روى البخاري عن عبد الله رضي الله تعالى عنه قال: (قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: اقرأ علي؟ -يعني: قرآناً- قلت: أقرأ عليك وعليك أنزل؟! قال: إني أحب أن أسمعه من غيري.
يقول: فقرأت عليه سورة النساء حتى بلغت: ﴿فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا﴾ قال: حسبك، فإذا عيناه تذرفان صلى الله عليه وسلم)، وهذا الحديث أخرجه أيضاً مسلم وليس فيه قوله: (حسبك)، وفيه أنه قال: (فرفعت رأسي أو غمزني رجل إلى جانبي فرفعت رأسي، فرأيت دموعه ﷺ تسيل) وبكاء النبي ﷺ إنما كان لتعظيم ما تضمنته هذه الآية الكريمة من هول المطلع وشدة الأمر، إذ يؤتى بالأنبياء شهداء على أممهم بالتصديق والتكذيب، ويؤتى بالنبي ﷺ يوم القيامة شهيداً: ﴿فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ﴾ فهذا تعظيم لهذا الموقف العظيم المهول، مع أن النبي عليه الصلاة والسلام سوف يكون في منصب الشاهد، فإذا كان الشاهد يشفق من هول هذا المطلع، وفظاعة وعظم هذا الموقف، فكيف بالمشهود عليه؟ وإذا كان الشاهد نفسه يبكي تعظيماً لهذا الموقف فلا شك أن غيره أولى أن يتفتت كبده.
وقوله: ﴿وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ﴾ يعني: كفار قريش وغيرهم من الكفار، وإنما خصهم بالذكر؛ لأن العذاب أشد عليهم من غيرهم؛ لأن هؤلاء رأوا المعجزات، ومع ذلك عاندوا، والمعنى: فكيف يكون حال هؤلاء الكفار يوم القيامة (إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا)؟! أمعذبون أم منعمون؟ وهذا الاستفهام للتوبيخ، وقيل: الإشارة إلى جميع أمته: (وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ) يعني: على جميع أمة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، سواء أمة الدعوة أو أمة الإجابة.
(شَهِيدًا) قال الألوسي: يعني: شهيداً تشهد على صدقهم؛ لعلمك بما أرسلوه، واستجماع شرعك مجامع ما فرعوا وأصلوا: ((وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا))؛ لأن بعض الأدلة تدل أيضاً على أن النبي عليه الصلاة والسلام سوف يكون شاهداً على الأنبياء أنهم بلغوا أممهم حين تنكر الأمم الكافرة ذلك، فيشهد النبي ﷺ بأن قومهم قد أبلغوهم.
ومن الآيات التي لها تعلق بالشهداء قوله تبارك وتعالى: ﴿وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ * وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ﴾ [الزمر: ٧١ - ٧٠] واختلف العلماء في المراد بهؤلاء الشهداء: ((وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ)) فقال بعض العلماء: هم الحفظة من الملائكة الذين كانوا يحصون أعمال الناس في الدنيا، واستدل من قال هذا بقول الله تبارك وتعالى: ﴿وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ﴾ [ق: ٢١] أي: شهيد من الملائكة، والجمع شهداء، فقوله: ((وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ)) يعني: الملائكة الذين كانوا يحصون أعمالهم.
وقال بعض العلماء: الشهداء أمة محمد صلى الله عليه وسلم، يشهدون على الأمم، كما قال تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾ [البقرة: ١٤٣].
وقيل الشهداء: الذين قتلوا في سبيل الله عز وجل.
والأقرب -والله تعالى أعلم- أن الشهداء: هم الرسل من البشر ((وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ)) يعني: بالنبيين والمرسلين الذين أرسلوا إلى الأمم؛ فالمعلوم أنه لا يقضى بين الأمة حتى يأتي رسولها، كما قال تبارك وتعالى في سورة يونس: ﴿وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ﴾ [يونس: ٤٧]، فلا يقضى بين الأمة حتى يجاء برسولها، وكما قال تعالى أيضاً: ﴿يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ﴾ [المائدة: ١٠٩]، وقال تعالى: ﴿فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ﴾ [الأعراف: ٦].
فأيضاً يشير إلى نفس هذا المعنى قول الله عز وجل: ((فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ))، وهو رسولها الذي أرسل إليها، فإذاً: شهيد كل أمة هو رسولها.
وقوله: ((فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ)) هذا يبين أن الشهيد يكون من نفس هذه الأمة، وهو ليس من الملائكة، فهذا القول يترجح على قول من قال: إن الشهداء في قوله: ((وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ)) هم الملائكة، بدليل قوله: ((وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ))، والآية الأخرى بينت أنه لا يكون قضاء حتى يجاء بالنبي شاهداً على أمته.
وقال تعالى: ﴿وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنفُسِهِمْ﴾ [النحل: ٨٩] ولا شك أن الرسل من أنفس أممهم، كما قال عز وجل في نبينا صلى الله عليه وسلم: ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ﴾ [التوبة: ١٢٨] صلى الله عليه وسلم، وقال تعالى: ﴿لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ﴾ [آل عمران: ١٦٤].