صاحب البردة وغلوه في رسول الله صلى الله عليه وسلم
الغلو في الدين والغلو في النبي ﷺ أمر وقع المسلمون فيه مع الأسف، واتبعوا سنن أهل الكتاب، فقال قائلهم: يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به سواك عند حلول الحادث العمم هذا كلام البوصيري في قصيدته المشهورة المشحونة ببعض الشركيات الشنيعة، فهو يقول: يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به سواك عند حلول الحادث العمم فهل يرضى الرسول عليه الصلاة والسلام أن يأتي رجل من أمته ويقول له: مالي من ألوذ به سواك؟! هل أنت تقرأ: قل أعوذ برسول الله! من شر ما خلق، ومن شر غاسق إذا وقب، أم تتعوذ بالله وحده؟! فهذا يتعوذ بالرسول عليه الصلاة والسلام ويقول: لا يوجد أحد غيره أعوذ به.
فالرسول عليه الصلاة السلام لا يرضى بأقل من هذا، فكيف بهذا الضلال المبين؟! ويقول أيضاً: وكيف تدعو إلى الدنيا ضرورة من لولاه لم تخرج الدنيا من العدم يعني: لولا الرسول عليه الصلاة والسلام لم تخلق الدنيا، فكأن الآية عندهم: وما خلقت الجن والإنس إلا من أجل محمد عليه الصلاة والسلام! ما هذا الغلو؟! ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات: ٥٦] أيضاً يقول البوصيري: فإن من جودك الدنيا وضرتها ومن علومك علم اللوح والقلم يعني: من جود الرسول عليه الصلاة والسلام الدنيا وضرتها التي هي الآخرة، فهما من كرمه وجوده! وعلم اللوح والقلم من علومه! وأيضاً يقول البوصيري معتمداً على فهم مغلوط لهذا الحديث: (لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، فإنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله): دع ما ادعته النصارى في نبيهم واحكم بما شئت مدحاً فيه واحتكم ففهم أن الحديث ينهى عن أن نقول: محمد ابن الله أو ثالث ثلاثة، فيقول: دع هذه، وقل بعد ذلك ما شئت، وامدحه بأي شيء، ففهم الحديث فهماً عجيباً جداً، فكان المفهوم عنده: اطروني بما شئتم ما عدا قولكم: محمد ثالث ثلاثة أو محمد ابن الله ونحو ذلك، وهذا الشاعر يعظمه كثير من المسلمين، وقصيدة البردة للأسف الشديد أعرف من يحفظها ولا يحفظ شيئاً من القرآن، وهذه لها وضع مميز عند الصوفية، وكأنها شيء من الوحي، فهم يحفظونها ويهتمون بها اهتماماً شديداً جداً، ويتبركون بها، وينشدونها في الموالد وبعض مجالس الوعظ والعلم، ويعدون ذلك قربة إلى الله عز وجل، ودليلاً على محبتهم النبي صلى الله عليه وسلم.
فهذا الشاعر قد ظن النهي الوارد في الحديث منصباً على الادعاء بأن محمداً ﷺ ابن الله، فنهى عن هذه المقولة، ودعا إلى قول أي شيء آخر مهما كان، ولا شك أن هذا غلط بالغ، وضلال مبين؛ ذلك لأن الإطراء المنهي عنه في الحديث له معنيان اثنان: الأول: (لا تطروني) هذا نهي عن مطلق المدح، يعني: لا تمدحوني أبداً؛ لأنكم لن تقووا على مدحي بأعظم مما مدحني به الله عز وجل، من أني رسول الله، وأني على خلق عظيم وغير ذلك مما امتدحه الله سبحانه وتعالى به.
الاحتمال الثاني: النهي عن مجاوزة الحق في المدح، والمراد المدح بالصور الموجودة الآن، فهي صناعة لم تكن معروفة عند السلف؛ لأن السلف رحمهم الله كانوا مشغولين بالاجتهاد في اتباع رسول الله عليه السلام، وإحياء سنته، وتجديد دينه، ولم يشتغلوا كما اشتغل هؤلاء بهذه المدائح.
إذاً: يمكن أن يكون المراد من الحديث النهي عن مدحه ﷺ مطلقاً من باب سد الذريعة، واكتفاء باصطفاء الله تعالى له نبياً ورسولاً وحبيباً وخليلاً، وبما أثنى سبحانه وتعالى عليه في قوله: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ [القلم: ٤] إذ ماذا يمكن للبشر أن يقولوا فيه بعد قول الله تبارك وتعالى هذا؟! وما قيمة أي كلام يقولونه أمام شهادة الله تعالى هذه؟! وإن أعظم مدح له ﷺ أن نقول فيه ما قال ربنا عز وجل: إنه عبد له ورسول، فهذه أكبر تزكية له صلى الله عليه وسلم.
والصوفية يغضبون جداً إلا لم تقل: (سيدنا رسول الله)، ويعتقدون أنك مقصر، والمفروض عندهم أن تقول: سيدنا محمد! فنقول: هل قول القائل: (سيدنا محمد) مثل قوله: (محمد رسول الله أو نبي الله؟ فـ (سيد) تطلق على أناس من البشر، لكن رسول الله لا تطلق إلا على من اصطفاه الله لذلك؛ لكن بعضهم يتشبث بها، ويرى أن من تعظيم رسول الله ﷺ أن يقولها حتى داخل الصلاة، ونسمع بعض العوام في الصلاة يقول: اللهم صل على سيدنا محمد كما صليت على سيدنا إبراهيم إلى آخره، فنقول لهذا: هل ينفع أن تقرأ القرآن وتقول مثلاً: (وآمنوا بما نزل على سيدنا محمد)؟ الله يقول: ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ﴾ [آل عمران: ١٤٤]، فهل يجعلها: (وما سيدنا محمد إلا رسول)؟ بلا شك الرسول ﷺ له هذه السيادة على البشر أجمعين؛ لأنه قال: (أنا سيد ولد آدم ولا فخر) لا شك في ذلك، فنحن لا نتشدد كثيراً في ذلك، لكن الأذكار المأثورة ينبغي أن نحافظ عليها، ولكنهم يعتبرون التنازل عن هذا تنازل عن تشريف كبير جداً للرسول عليه الصلاة والسلام، وإنما التشريف للرسول عليه الصلاة والسلام أن تمدحه بالرسالة فتقول: (رسول الله) عليه الصلاة والسلام، و (نبي الله)، فأعظم مدح للرسول عليه السلام أن نقول فيه ما قال ربنا عز وجل: إنه عبد له ورسول، هذه أكبر تزكية له صلى الله عليه وسلم، وليس فيها إفراط ولا تفريط، ولا غلو ولا تقصير، وقد وصفه الله سبحانه وتعالى وهو في أعلى درجات وأرفع تكريم من الله تعالى له بصفة العبودية، فقال في المعراج والإسراء: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى﴾ [الإسراء: ١] وأيضاً قال ذلك في مقام التحدي ومقام الدعوة كما سبق ذكره.
ويمكن أن يكون المراد من الحديث: (لا تطروني) أي: لا تبالغوا في مدحي، وعلى هذا يفتح الباب في مدح الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، لكن لا تبالغوا في مدحي فتصفوني بأكثر مما أستحقه من بعض خصائص الله تبارك وتعالى، والأقرب -والله تعالى أعلم- هو المعنى الأول، وهو أن هذا نهي عن مطلق المدح الخارج عما مدحه الله سبحانه وتعالى، بدليل تمام الحديث: (إنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله)، يعني: اكتفوا بما وصفني به الله عز وجل من جعلي عبداً له ورسولاً صلى الله عليه وآله وسلم، والإمام الترمذي ذكر هذا الحديث تحت ترجمة باب: تواضع النبي صلى الله عليه وسلم، فحمل الحديث على النهي عن المدح المطلق، وهذا هو الذي ينسجم مع معنى التواضع، وعن أنس قال: (جاء إلى النبي ﷺ رجل فقال: يا خير البرية! فقال عليه الصلاة والسلام: ذاك إبراهيم) رواه مسلم، وهذا من تواضعه ﷺ كما في الحديث الآخر: (لا ينبغي لأحد أن يقول: أنا خير من يونس بن متى)؛ لأنه بلا شك حتى في هذه الجزئيات قد قطع الوحي، وبين أن الرسول ﷺ أفضل الأنبياء على الإطلاق، وأنه خير الأنبياء وسيد ولد آدم أجمعين صلى الله عليه وعلى آله وسلم.


الصفحة التالية
Icon