من فضائل الذكر
القلب لا يحصل التأثير فيه إلا بالمداومة على الذكر، فعمل قليل تداوم عليه أفضل من عمل كثير لا تداوم عليه؛ لأن هذا هو الذي يعالج أمراض القلوب، وقد ثبت للتسبيح فضائل جمة، منها قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (من قال حين يصبح وحين يمسي: سبحان الله العظيم وبحمده مائة مرة لم يأت أحد يوم القيامة بأفضل مما جاء به إلا أحد قال مثل ما قال أو زاد عليه) فهذا يدل على أنه يستحب أن تقول: سبحان الله وبحمده، أو سبحان الله العظيم وبحمده- في الرواية الأخرى- مائة مرة، في أذكار الصباح وأذكار المساء.
ويستحب أنك تزيد على المائة مرة، فالزيادة هنا مرغب فيها، بدليل قوله: (لم يأت أحد يوم القيامة بأفضل مما جاء به إلا أحد قال مثل ما قال أو زاد عليه).
وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (من قال: سبحان الله العظيم وبحمده غرست له بها نخلة في الجنة)، ولا شك أن هذا فضل عظيم جداً، لكننا لانهماكنا في الدنيا نغفل عن هذه الفضائل العظيمة التي سوف ننفصل عنها بالموت، ولو أن رجلاً بشر بقصر في الدنيا، أو شقة أو حتى غرفة، كم تكون سعادته وحرصه على ذلك! لكن انظر الرسول عليه الصلاة والسلام يقول لنا: (من قرأ: ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾ [الإخلاص: ١] عشر مرات بنى الله له قصراً في الجنة)، فكم نغفل عن هذا! لا شك أن السكوت فقط هو نوع من الخسران؛ لأنه لا يوجد فيه طاعة؛ ولذلك الخسارة عند التاجر درجات، فلو أنه اتجر في المال وربح مثلاً ٣٠% فهذا مكسب؛ لكن لو كان ينفق ٥٠% فإنه يعتبر خسر ٢٠%، ولو أنه قصر وبسبب تقصيره وصل الربح مثلاً إلى ٢٠% فهذه يعتبرها خسارة مع أنه ربح، وأعمال الخير نفسها تتفاضل، فالإنسان المفروض أنه لا يشتغل بالمفضول عن الفاضل، وينظر دائماً إلى الأعلى ثواباً.
وهناك أشياء ثوابها عظيم جداً، والجهد الذي يبذل فيها قليل جداً، ومنها: ترك السلام، يقول صلى الله عليه وسلم: (وأبخل الناس من بخل بالسلام)، فالسلام فيه الثواب العظيم، لكنه ثقيل على بعض الناس، فهذا بخيل جداً على نفسه بالسلام، وعلى إخوانه بالإحسان إليهم بالسلام.
كذلك العاجز الذي يعجز عن الدعاء، مهما كانت مطالبك وطموحاتك فإنك تحصل عليها بالدعاء، المهم أن يكون في الدعاء صدق وإخلاص لله عز وجل.
الإنسان رأس ماله هو الوقت، يقول الله سبحانه وتعالى في سورة العصر: ﴿وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾ [العصر: ١ - ٣].
(وَالْعَصْرِ) هذا قسم بالعصر الذي هو الدهر أو الزمن أو الوقت، يحلف الله به لأنه من آياته العظمى، فالدهر لا يذم لذاته أبداً؛ لأن الدهر والزمن مجرد ظرف، فمن الناس من يستثمره بالأعمال الصالحة، ومنهم من يكون بعكس ذلك، فالعصر أو الدهر أو الزمن ليس له ذنب إنما هو ظرف لأفعال العباد، كما يقول الشاعر: نعيب زماننا والعيب فينا وما لزماننا عيب سوانا ونهجو ذا الزمان بغير ذنب ولو نطق الزمان بنا هجانا فأقسم الله بالعصر ليلفت نظر الناس إلى شرف الزمن والوقت.
قوله: (إِنَّ الإِنسَانَ) يعني: كل الإنسان، (لَفِي خُسْرٍ)، ثم استثنى: (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ).
قال بعض السلف: تعلمت تفسير سورة العصر من بائع ثلج، لم يكن في الزمن الماضي ثلاجات يوضع فيها الثلج، لكن كانت تصنع قوالب للثلج، فالناس في يوم من الأيام لم يشتروا منه الثلج، وهذا الثلج إذا لم يبعه سينصهر ويصير ماء كأي ماء، فقارب وقت العصر بعدما انفض السوق أو كاد وما أحد اشترى منه، فظل يجول في الطرقات وهو يحمل الثلج ويقول: ارحموا من يذوب رأس ماله! يعني: اشتروا مني الثلج قبل أن يذوب، فهذا رأس مالي، وهذه أعظم الخسارة، فالخسارة في المال هي خسارة الربح، فلو أن تاجراً باع بالجهد العظيم الذي بذله في التجارة، وعاد إليه فقط رأس المال، فهذا نوع من الخسارة؛ لأنه كان يمكن أن يكسب ربحاً؛ لكن هذا لا له ولا عليه، لأنه بتعبير آخر: خسر جهده.
فلو أن شخصاً خسر فوصلت خسارته إلى رأس المال، فهذه خسارة، وأعظم منها: شخص خسر كل رأس ماله، فرأس مال الإنسان هو الوقت والزمن والعمر، فهذا هو رأس المال.
فهذا الوقت يمر ويجري، فهو دوماً في نقصان؛ لأن كل لحظة لا يمكن أن تسترجعها ولو فعلت ما فعلت لا تستطيع أن تعيد مثلاً ساعة من الآن، هل تستطيع أن تأتي بالشمس من جديد وتعيد اليوم الذي مضى؟! لا يمكن أن يعود أبداً مستحيل! كذلك العمر يمضي، فأنت عمرك يمضي، والساعة تمر.
دقات قلب المرء قائلة له إن الحياة دقائق وثوان فالدقات هي عبارة عن إنذار ينذرك: احترز وانتبه واستكمل هذا الوقت، وقد عبر العلامة الشيخ محمد القاضي حسين رحمه الله تعالى عن هذا المعنى في بيتين من الشعر، حينما أتاه صبي صغير بالساعة القديمة (البندول)، وهي غير الساعة الرقمية، فلما أعطاه إياها، قال له: ما فيها؟ وصوت البندول معروف، فأنشد شيئاً من الشعر قال: وغلام قرب الساعة من أذنيه يسمع منها الصرخات قال ما بداخلها قلت كوزة تقرض أيام حياتي العالم الذي قال: تعلمت تفسير هذه السورة من بائع ثلج، كان يحمل الثلج على كتفه ويجري في الأسواق والشوارع ويقول: ارحموا من يذوب رأسه ماله، فكم تكون الشفقة على شخص كل رأس ماله هو هذا الثلج، وإذا ذاب الثلج ذهب كل رأس ماله وتبخر؟! فيريد هذا العالم أن يقول: إن السورة تشير إلى أن رأس مال الإنسان هو الوقت، والوقت دوماً في نقصان مثل الثلج الذي ينصهر رويداً رويداً.
فالوقت في نقصان وذهاب، فحتى تجبر هذا النقصان لا بد أن تستدرك بأن تستثمر الوقت في طاعة الله سبحانه وتعالى، فما بالك بمن يستثمره في المباح؟! ثم ما بالك بمن يستثمره في المعاصي؟! فلا شك أنه يكون حاله أو خسارته أعظم! والذكر من الأمور السهلة جداً جداً على الإنسان، وإذا أراد الله له به الخير يسره عليه، فالذكر يحتاج أولاً إلى المجاهدة، ثم بعد ذلك يحاول أن يغلب عليه ذكر الله سبحانه وتعالى، فكم يندم الإنسان بعد ذلك إذا مات ولم يستثمر هذه الأوقات، قال صلى الله عليه وسلم: (من قال: سبحان الله العظيم وبحمده غرست له بها نخلة في الجنة)، وقال صلى الله عليه وسلم: (من قال: سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك، فإن قالها في مجلس ذكر كانت كالطابع يطبع عليه، وإن قالها في مجلس لغو كانت كفارة له)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (من قال: سبحان الله وبحمده في يوم مائة مرة حطت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر).


الصفحة التالية
Icon