مسألة التنزل مع الخصم وضابطها
قوله: (فإن أظهر فإن شاءوا) يلاحظ هنا أن الرسول عليه الصلاة والسلام ردد الأمر، وجعل فيه احتمالين: إذا حصل صلح إما أن يغلبه غيرهم، وإما أن يظهر هو فيكونون قد استفادوا من هذه الهدنة بأن يقووا ويستريحوا من القتال، خاصة بعد قوله: (قد نهكتهم الحرب)، وإنما ردد -الأمر مع أنه ﷺ جازم بأن الله تعالى سينصره ويظهره؛ لوعد الله تعالى له بذلك- على طريق التنزل مع الخصم، وترك الأمر على ما زعم الخصم، فهذا نوع من التنزل في النقاش ولا يضر صاحب الحق، فيجوز للإنسان في أثناء المناظرة أو المناقشة أن يفعل هذا النوع من التلطف والتنزل؛ لأن هدفك ليس إفحام الخصم، وإنما هدفك أن تهديه إلى الحق، فيجوز للإنسان في أثناء النقاش أن يفعل نوعاً من التنزل وتحويل العبارة بحيث يحصل به جذب لهذا الشخص إلى الحق.
قوله عليه السلام: (فإن أظهر فإن شاءوا) قلنا: هذا ردده الرسول عليه الصلاة والسلام -مع أنه جازم بأن الله تعالى سينصره ويظهره بوعده تعالى له- على طريق التنزل مع الخصم وجعل الأمر على ما زعم الخصم، وبهذه النكتة حدث القسم الأول، وهو التصريح بظهور غيره عليه، يعني: فإن ظهر غيري علي فقد استراحوا مني، وإن أظهر أنا فإن شاءوا دخلوا فيما دخل فيه الناس، وإن وقد وقع التصريح بهذا في رواية ابن إسحاق ولفظه: (فإن أصابني كان الذي أرادوا)، وفي رواية أخرى: (فإن ظهر الناس علي فذلك الذي يبتغون)، فالظاهر أن الحذف وقع من بعض الرواة تأدباً، فيقول الحافظ: الظاهر أن بعض الرواة حذف منها هذه الجملة التي فيها: إن يغلب النبي عليه الصلاة والسلام أو يظهر عليه أحد؛ تأدباً، فإن بعض الروايات ذكرت هذا، فحذفها تأدباً، واقتصر على قوله: (فإن أظهر فإن شاءوا دخلوا فيما دخل فيه الناس).
وذكرنا أنه قد يحتاج الإنسان إلى هذا الأسلوب من التنزل في المحاورة والمناقشة، وهناك آيات كثيرة في القرآن الكريم من هذا النوع، كما في سورة سبأ قال تعالى: ﴿وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ﴾ [سبأ: ٢٤]، ركز الأمر على سبيل الاحتمال إما أننا نحن على الحق أو أنتم على الحق: (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ)، وذكر السورة لهذه الطريقة المحتملة هل يضر الحق شيئاً؟ لا يضر، لكن هي فيها استدراج للخصم لكي يكون أقرب إلى الانقياد للحق.
كذلك الشاهد في قصة يوسف بدأ بالشيء الذي هو أقرب إلى هواهم، لكن هل يضر هذا يوسف شيئاً؟ لا يضره شيئاً، ما دام أنه مع الحق، قال الله: ﴿وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ * وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ﴾ [يوسف: ٢٦ - ٢٧]، فهذا نوع آخر من التنزل لإثبات النزاهة لمن يدافع عنه، مع أنك تجادل في الحق على صورة محتملة فيها نوع من الاستدراج واستنزال الخصم، حتى يعي ما تقول وينقاد إلى الحق.
كذلك قول مؤمن آل فرعون كما قال تعالى: ﴿وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ﴾ [غافر: ٢٨] فهذه دعوة إلى التدبر في أمر موسى عليه السلام، والتعامل مع دعوته بالعقل والمنطق: (وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا) فالكذب لا يضر أحداً إلا هو (فعليه كذبه)، يعني: افترضوا أنه صادق فيما يهددكم به من عذاب الله، فخذوا الأمر بجدية (وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ)، فهذا من التنزل مع أن موسى عليه السلام حاشاه الكذب.
أيضاً قول المؤمن: ﴿يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الأَرْضِ فَمَنْ يَنصُرُنَا﴾ [غافر: ٢٩] يعني: كلنا ﴿مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا﴾ [غافر: ٢٩].
أيضاً في قصة يوسف قال تعالى: ﴿فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيِه﴾ [يوسف: ٧٦] دفعاً للتهمة عن نفسه.


الصفحة التالية
Icon