جواز النطق بما يستبشع من الألفاظ لمن بدا منه ما يستحق ذلك
قوله: (فقال عروة عند ذلك) أي: عند قول النبي عليه الصلاة والسلام: (لأقاتلنهم حتى تنفرد سالفتي) قال عروة عند ذلك: أي محمد! أرأيت إن استأصلت أمر قومك! هل سمعت بأحد من العرب اجتاح أهله قبلك؟ وإن تكن الأخرى فإني لأرى وجوهاً، وإني لأرى أوباشاً من الناس خليقاً أن يفروا ويدعوك).
لما قال له النبي ﷺ نفس الكلام الذي قاله لـ بديل وهو قوله: (وإن هم أبوا فوالذي نفسي بيده لأقاتلنهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي ولينفذن الله أمره، قال له: أي محمد! أرأيت إن استأصلت أمر قومك) أي: لو نجحت في أن تستأصل قومك قريشاً، (هل سمعت بأحد من العرب اجتاح أهله قبلك؟) يعني: أهلك أصله بالكلية، وحذف الجزاء من قوله: (وإن تكن الأخرى) تأدباً مع النبي صلى الله عليه وسلم، والمعنى: وإن تكن الغلبة لقريش لا آمنهم عليك مثلاً.
فهو ذكر هذين الاحتمالين: يقول: (أي محمد! أرأيت أن استأصلت أمر قومك هل سمعت بأحد من العرب اجتاح أهله قبلك؟ وإن تكن الأخرى) يعني: إن تكن الغلبة لقريش، وهذا من فصاحة العرب ودقتهم في التعبير، دائماً التعبير يكون في جانب الهزيمة يكون بقولهم: وإن تكن الأخرى؛ تجنباً للفظ الهزيمة، وأن يغلب الإنسان، فقال: (وإن تكن الأخرى) يعني: معناها إن غلبتك قريش، وكان لابد من القتال، (فإني والله لأرى وجوهاً) فهو ينظر باحتقار إلى الصحابة، ويريد أن يذم الصحابة الذين كانوا حول النبي عليه الصلاة والسلام، (وإني لأرى أوباشاً من الناس خليقاً أن يفروا ويدعوك)، فقوله: (فإني والله لأرى وجوهاًً) كالتعليل لهذا القدر المحذوف.
والحاصل: أن عروة ردد الأمر بين شيئين غير مستحسنين عادة، وهو هلاك قومه إن غلب، وذهاب أصحابه إن غُلب، فهو لأنه لم يكن مسلماً فالاحتمالان عنده غير مستحسنين، فيريد أن يقنع النبي عليه السلام بأن كلا الأمرين غير مستحسن، وهذا من وجهة نظره هو، يقول الحافظ: لكن كل من الأمرين مستحسن شرعاً، كما قال تعالى: ﴿قُلْ هَلْ تَربَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ﴾ [التوبة: ٥٢].
قوله: (وإن تكن الأخرى فإني لأرى وجوهاً، وإني لأرى أوباشاً)، وفي بعض الروايات: (أوشواباً) والأشواب: الأخلاط من أنواع شتى، والأوباش: الأخلاط من السفلة، فالأوباش أخص من الأشواب، (خليقاً) يعني: حقيقاً وجديراً (أن يفروا ويدعوك) يعني: يتركوه، وفي بعض الروايات: (وكأني بهم لو قد لقيت قريشاً قد أسلموك، فتؤخذ أسيراً، فأي شيء أشد عليك من هذا؟).
وفيه أن العادة جرت أن الجيوش المجمعة لا يؤمن عليها الفرار، بخلاف من كانوا من قبيلة واحدة، فإنهم يأنفون الفرار في العادة.
والحاصل أن عروة ردد الأمر بين شيئين غير مستحسنين عادة، لكن شرعاً هما مستحسنان، لقوله تعالى: (قُلْ هَلْ تَربَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ).
أيضاً: لأنه لم يكن تشرف بنور الإسلام؛ احتقر الصحابة، فسماهم أوباشاً سفلة من الناس أو أخلاطاً، هذا رومي! وهذا حبشي! وهذا قرشي! وهذا كذا فهم عبارة عن أخلاط، فيقول الحافظ: وفيه أن العادة جرت أن الجيوش المجمعة من الخليط لا يؤمن عليها الفرار، بخلاف من كانوا من قبيلة واحدة؛ لأن أصحاب القبيلة الواحدة يأنفون ويستمسكون عن الفرار -لأن هذا يعيبهم، ويكون عاراً في حقهم- وما درى عروة أن مودة الإسلام أعظم من مودة القرابة؛ لأنه لم يكن مسلماً، فمودة الإسلام التي تربط بين هؤلاء الصحابة أعظم من مودة القرابة، وقد ظهر له ذلك من مبالغة المسلمين في تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم، فالمسلمون لقنوه درساً لا ينساه بالقول والعمل، بالقول حين رد عليه أبو بكر رضي الله عنه مباشرة بقول شديد شنيع، وكما رد أيضاً المغيرة بن شعبة كما سيأتي، وبالعمل حينما بالغوا في تعظيم النبي ﷺ أمام هذا الكافر؛ ليدرك أنهم ليسوا كما ظن بهم، وإنما هم أشد الناس تعظيماً للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، فلما قال: (وإني لأرى وجوهاً وإني لأرى أوباشاً من الناس خليقاً أن يفروا ويدعوك قال له أبو بكر: امصص بظر اللات، أنحن نفر عنه وندعه؟! فقال: من ذا؟ قالوا: أبو بكر، قال: أما والذي نفسي بيده لولا يد كانت لك عندي لم أجزك بها لأجبتك، قال: وجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم، فكلما تكلم كلمة أخذ بلحيته والمغيرة بن شعبة قائم على رأس النبي ﷺ ومعه السيف وعليه المغفر، فكلما أهوى عروة بيده إلى لحية النبي ﷺ ضرب يده بنعل السيف، وقال له: أخر يدك عن لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فرفع عروة رأسه، فقال: من هذا؟ قالوا: المغيرة بن شعبة فقال: أي غدر! -لأنه عمه- ألست أسعى في غدرتك؟! وكان المغيرة صحب قوماً في الجاهلية فقتلهم وأخذ أموالهم، ثم جاء فأسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أما الإسلام فأقبل، وأما المال فلست منه في شيء).
قول أبي بكر له: (امصص بظر اللات)، اللات هي الآلهة التي كان يعبدها عروة، وكانت عادة العرب الشتم بذلك، لكن بلفظ الأم، فأراد أبو بكر المبالغة في سب عروة بإقامة من كان يعبد مقام أمه، وحمله على ذلك ما أغضبه به من نسبة المسلمين إلى الفرار، وفيه جواز النطق بما يستبشع من الألفاظ لإرادة زجر من بدا منه ما يستحق به ذلك، وقال ابن المنير: في قول أبي بكر تخسيس للعدو، وتكذيبه، وتعريض بإلزامهم من قولهم: إن اللات بنت الله، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً؛ لأنها لو كانت بنتاً كان لها ما يكون للإناث.
قوله: (أنحن نفر وندعه؟) هذا استفهام إنكار، (قال: من ذا؟ قالوا: أبو بكر)، وفي رواية: فقال: (من هذا يا محمد؟ فقال: هذا ابن أبي قحافة) رضي الله عنه، ثم قال له: (أما) وهذا حرف استفتاح، (والذي نفسي بيده)، وهذا يدل على أن القسم بهذا كان من عادة العرب، (لولا يد كانت لك عندي لم أجزك بها لأجبتك) لولا يد أي: نعمة، وهو إحسان كان أحسن إليه أبو بكر فيما مضى، وهو لم يرد له هذا الإحسان أو هذا الجميل، (لم أجزك بها) يعني: لم أكافئك بها، (لأجبتك) لكن هذه بها، فسأتوقف وأمتنع من الرد عليك عن هذه الكلمة الشنيعة التي قلتها مقابل النعمة أو الجميل الذي فعلته في، ففي الجاهلية كان يوجد أخلاق، أما الآن كما يقول بعض الناس: أصبحنا في زمان ليس فيه آداب الإسلام، ولا أخلاق الجاهلية، ولا أحلام ذوو المروءة! فقال: (لولا يد لك عندي لم أجزك بها) يعني: لم أكافئك بها لأجبتك، وذكر بعضهم أن هذه اليد المذكورة: أن عروة كان تحمل دية، فأعانه أبو بكر بعون حسن، وفي رواية الواقدي: أعانه بعشر قلائص.