جواز الاستتار عن المشركين ومفاجأتهم غرة
قال الزهري: (وسار النبي ﷺ حتى كان بغدير الأشطاط أتاه عينه فقال: إن قريشاً جمعوا جموعاً وقد جمعوا لك الأحابيش) واحدها أحبوش، وهم بنو الهول بن خزيمة بن مدركة، وبنو الحارث بن عبد مناف بن كنانة، وبنو المصطلق من خزاعة، كانوا قد تحالفوا مع قريش، وكان التحالف بين هذه القبائل وبين قريش تحت جبل يقال له: الحبشي أسفل مكة؛ فسموا الأحباش؛ نسبة إلى هذا المكان الذي تحالفوا عنده.
وقيل: سموا بذلك لأنهم تجمعوا؛ فمعنى التحبش: التجمع، فسموا بذلك لتحبشهم أي: تجمعهم، والتحبش: التجمع، والحباشة: الجماعة.
وعن عبد العزيز بن أبي ثابت: أن ابتداء حلفهم مع قريش كان على يد قصي بن كلاب.
ووقع عند ابن سعد: وبلغ المشركين خروجهم -يعني: إلى العمرة- فأجمع رأيهم على صده عن مكة، وعسكروا ببلدح، وبلدح: موضع خارج مكة.
قوله: (قال النبي صلى الله عليه وسلم: إن خالد بن الوليد بالغميم في خيل لقريش طليعة)، وفي رواية: (فقال له عينه هذا خالد بن الوليد بالغميم)، ويقال: الغُميم، يقول المحب الطبري: يظهر أن المراد كراع الغميم، وهو موضع بين مكة والمدينة، وقال ابن حبيب: الغميم قريب من مكة بين غابر والجحفة.
وبين ابن سعد أن خالداً كان في مائتي فارس فيهم عكرمة بن أبي جهل، والطليعة: مقدمة الجيش.
قال النبي عليه الصلاة والسلام: (فخذوا ذات اليمين) أي: خذوا الطريق التي فيها خالد وأصحابه.
قوله: (حتى إذا هم بقترة الجيش فانطلق يركض نذيراً).
قترة: المقصود بها الغبار الأسود.
يقول: (إن خالد بن الوليد بالغميم في خيل لقريش طليعة فخذوا ذات اليمين، فو الله ما شعر بهم خالد حتى إذا هم بقترة الجيش، فانطلق يركض نذيراً لقريش)، لما رآهم خالد انطلق يركض مسرعاً ينذر قريشاً بمقدم النبي صلى الله عليه وسلم.
قوله: (وسار النبي صلى الله عليه وسلم، حتى إذا كان بالثنية التي يهبط عليهم منها بركت به راحلته).
الثنية: هي طريق في الجبل تشرف على الحديبية.
قوله: (حتى إذا كان بالثنية التي كان يهبط عليهم منها بركت به راحلته: فقال الناس: حل حل) وهي كلمة تقال للناقة إذا توقفت عن السير، فإنهم ينادونها بهذه العبارة: حل حل، حثاً لها لمواصلة السير والحركة، فقال الصحابة رضي الله تعالى عنهم لناقة النبي ﷺ لما بركت: (حل حل).
قال الخطابي: إن قلت: (حلْ) واحدة بالسكون، وإن أعدتها (حلٍ حلْ) تنون في الأولى وتسكن في الثانية كـ (بخٍ بخ)، وحكى غيره السكون فيهما، يقال: حلحلت فلاناً إذا أزعجته عن موضعه، حتى تحركه من موضعه.
(فقال الناس: حل حل، فألحت) يعني: تمادت وأصرت على عدم القيام، وهو من الإلحاح، رغم قولهم لها: (حل حل) (فقالوا: خلأت القصواء).
الخلأ للإبل كالحران للخيل، ولا يكون الخلاء إلا للنوق خاصة.
والقصواء: اسم ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان طرف أذنها مقطوعاً، والقصو: قطع طرف الأذن، يقال: بعير أقصى وناقة قصواء، وزعم الداودي أن هذه الناقة كانت لا تسبق، فقيل لها: القصواء؛ لأنها بلغت من السبق أقصاه.
قوله: (فلما قال الناس: خلأت القصواء، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ما خلأت القصواء، وما ذاك لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل).
(وما ذاك لها بخلق) يعني: ليس هذا من عادتها أن تتمرد وتمتنع عن المشي؛ ولكن حبسها حابس الفيل، فهذا أمر من الله سبحانه وتعالى.
نلاحظ هنا: كيف أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم -تجاوزاً- رد غيبة هذه الناقة، استصحاباً للأصل، فإذا كان الشخص معروفاً بالخير والاستقامة ثم بدر منه شيء، فالأصل أن تذب عنه، وتحسن الظن به، وتحمل أحواله على أحسن ما يكون، ففي حق دابة قال: (ما خلأت القصواء، وما ذاك لها بخلق)، فهذه إشارة إلى أهمية استصحاب الخلق الأصلي، والطباع الأصلية للشخص، وينظر إلى ما بدر على أنه زلة ليست صفة راسخة فيه، ومن ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم إلا الحدود)، فالأناس ذوي الهيئة والاستقامة، والمعروفون بالعلم والورع والتقوى، إذا وقع أحدهم في عثرة أو خطأ فلا ينبغي أن تشهر وتضخم، وإنما يعفى عنه فيها إلا إذا أصاب حداً من حدود الله تبارك وتعالى.
قال ابن بطال وغيره: في هذا الفصل جواز الاستتار عن أعين المشركين، ومفاجأتهم بالجيش طلباً لغرتهم -يعني: إشارة إلى المفاجأة في القتال-، وجواز السفر وحده للحاجة، وجواز التنكب عن الطريق السهلة إلى الوعرة للمصلحة.
لأن الدين يسر، ونحن لا ينبغي أن نتعذب بتكلف المشقة إذا كان هناك طريقان -مثلاً- إلى المسجد: طريق ممهد وسهل، وطريق آخر وعر فيه الهوام وأشياء ضارة مما يؤذي ويشق على الناس، فلا تسلك الطريق الوعرة طلباً للمشقة، والإسلام لا يرضى أن الإنسان يتكلف المشقة، بل متى ما خير بين أمرين يختار أيسرهما، فنحن لا نتعبد بتحري المشقة، وإنما نختار الأيسر والأسهل، إلا إذا كان لمصلحة كما في هذا الحديث، حيث اختار الطريق الوعرة لأجل المصلحة الراجحة التي استدعت ذلك.
وفي هذا الفصل أيضاً جواز الحكم على الشيء بما عرف من عادته، وإن جاز أن يطرأ عليه غيره، فإذا وقع من شخص هفوة لا يعهد منه مثلها لا ينسب إليها، ويرد على من نسبه إليها، ويعذر من نسبه إليها ممن لا يعرف صورة حاله، يعني: إذا نسبه إليها من لم يعرف الأصل في هذا الشخص، فإنه يعذر؛ لأنه لا يعرفه بالحقيقة، أما الذي يعرفه ويعرف أن الأصل أن يستصحب استقامته وأحواله؛ ففي هذه الحالة يحكم عليه بما عرف من عادته؛ لأن خلاء القصواء لولا خارق العادة -وهو أنه حبسها حابس الفيل- لكان ما ظنه الصحابة بها صحيحاً من كونها خلأت، ولم يعاتبهم النبي ﷺ على ذلك لعذرهم في ظنهم.
وفيه جواز التصرف في ملك الغير للمصلحة بغير إذنه الصريح، إذا كان سبق منه ما يدل على الرضا بذلك؛ لأنهم قالوا: (حل حل)، فزجروها بغير إذنه، ولم يعاتبهم عليه النبي صلى الله عليه وسلم.
قوله: (فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما خلأت القصواء وما ذاك لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل) وزاد ابن إسحاق (عن مكة) فقال: (حبسها حابس الفيل عن مكة) إشارة إلى ما وقع في قصة الفيل حينما أتى أبرهة بجيشه يقصد هدم الكعبة، فلما أراد أن يقترب من مكة حبس الفيل دون ذلك، وأرسلت عليه الطير الأبابيل، فمعنى (حبسها حابس الفيل) أي: حبسها الله عز وجل عن دخول مكة كما حبس الفيل عن دخولها، ومناسبة ذكرها: أن الصحابة لو دخلوا مكة على تلك الصورة وصدتهم قريش عن ذلك؛ لوقع بينهم قتال قد يفضي إلى سفك الدماء، ونهب الأموال، كما لو قدر دخول الفيل وأصحابه مكة، لكن سبق في علم الله تعالى في الموضعين -في حادثة الفيل، وفي الحديبية- أنه سيدخل في الإسلام خلق منهم، ويستخرج من أصلابهم أناس يسلمون ويجاهدون، وكان بمكة في زمن الحديبية جمع كثير مؤمنون من المستضعفين من الرجال والنساء والولدان، يعني: كانوا يستترون بإيمانهم، أو يظهرون إيمانهم ويعذبون ويستضعفون، فلو ترك الصحابة ليدخلوا مكة لما أمن أن يصاب أناس منهم بغير عمد، يعني: إذا دخلوا مكة وحصل قتال وهم لا يعرفون إخوانهم الذين يستترون بإيمانهم ولا يجهرون به، فربما قتلوا إخوانهم دون أن يشعروا، وقد أشار الله سبحانه وتعالى إلى هذا في سورة الفتح بقوله: ﴿وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا﴾ [الفتح: ٢٥] لو تميزوا لنزل العذاب على الكفار، لكن منعهم الله عن دخولها، وحبسها حابس الفيل حتى لا يحصل قتال، فتقتلوا إخوانكم المؤمنين في مكة الذين هم مستضعفون وأنتم لا تشعرون؛ فتصيبكم منهم معرة بغير علم، لكن لو كانوا متميزين عنهم: ((لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا))، لكن بوجود هؤلاء المستضعفين حبس الله الناقة عن الاستمرار في السير والدخول إلى مكة؛ حتى لا يقع هذا القتال.
ووقع للمهلب تحرج في جواز إطلاق (حابس الفيل) على الله سبحانه وتعالى، فقال: المراد حبسها أمر الله عز وجل، فهو استبعد جواز هذه الكلمة، والراجح جواز إطلاق ذلك في حق الله، فيقال: (حبسها الله حابس الفيل)، وإنما يمنع تسميته سبحانه وتعالى (حابس الفيل) ونحوه، وكذا أجاب ابن المنير، وهو مبني على الصحيح من أن الأسماء الحسنى توقيفية، بمعنى: أن أمر الإخبار عن الله سبحانه وتعالى وعن أفعاله أوسع من إطلاق الأسماء الحسنى على الله، فالأسماء الحسنى توقيفية، لكن عند الإخبار عن أفعال الله فيمكن أن يحصل توسع بأن يقال: حابس الفيل وغير ذلك من الأفعال أو الصفات، فمثلاً قوله تعالى: ﴿وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْيدٍ﴾ [الذاريات: ٤٧] ليس من أسماء الله الحسنى الباني، فعند الإخبار عن أفعال الله الأمر فيه سعة، كما في هذه الآية ((وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْيدٍ))، ومن أجاز الاشتقاق في الأسماء الحسنى اشترط فيه ألا يشعر بالنقص كالوافي مثلاً.